عبدالوهاب الفايز
هل هو أمر جديد علينا هذا الذي نتحدث عنه، أي إدخال القطاع الثالث في التنمية كشريك أو كبديل للقطاع الخاص؟
قبل خمسين عامًا كانت المشروعات الاجتماعية حاضرة بقوة وتخدم احتياجات المجتمع الناشئ. كانت الناس تتشارك وتتكامل لتقدم الخدمات التي تحتاجها، وتأسست الجمعيات الخيرية والتعاونيات التجارية والزراعية، وحتى تشارك الناس في إنتاج الكهرباء وخدمات المياه. كانت هذه بدايات أولية لما يعرف بشركات الخدمات الاجتماعية والإنسانية والاقتصادية.
تلك البدايات حينئذٍ شكلت نقلة نوعية كبيرة للقطاع الخيري والتعاوني إذا أخذناها بمعايير وظروف تلك الحقبة. هذه النقلة تراجعت، أو شبه توقفت مع دخول برامج التنمية الاقتصادية الشاملة التي أدت إلى توسيع دور القطاعين العام والخاص، وقد نجحا في تقديم الخدمات الأساسية للناس. لكن الاعتماد عليهما لن يساعد في حل مشكلة الفجوة المتنامية بين الخدمات والاحتياجات.
السؤال الجوهري محور هذه المقالات هو: ما هي المجالات التي نحتاج فيها لمساهمة القطاع الثالث حتى نقتنع بدوره الحيوي ونحقق (المكاسب السريعة)؟
هذا القطاع نجح في مجال مهم للاستقرار الاجتماعي وهو الخدمات الصحية. هنا نحتاج لمساهمته لسد فجوة الاحتياجات المتنامية والمكلفة للخدمات الصحية. في هذا القطاع الأفضل التحول التدريجي لإسناد الخدمات للقطاع الثالث. التحول السريع إلى خصخصة القطاع الصحي وتحويل نمط الإدارة ليحاكي أساليب إدارة الأعمال التجارية يوجد الحراك الذي يحقق المكتسبات السريعة، ولكن على المدى البعيد سوف ترتفع تكلفة الخدمات على الناس أو على المالية العامة للدولة. مع الأسف لا أحد يناقش هذه المخاطر!
النماذج التي أخذت بالخصخصة، في العديد من الدول، تقدِّم صورة حيَّة للممارسة السيئة، ويتصدر النموذج الأمريكي القائمة، فهناك 80 مليوناً أمريكياً بدون تغطية صحية، وهناك أكثر من ترليون دولار تكلفة علاج لم يتم دفعها بسبب العجز المالي للمرضى!
المفارقة أن النموذج الأمريكى الناجح في تقديم الرعاية الصحية عبر القطاع الخيري لا يتم النظر إليه والاستفادة منه، فهناك العديد من التجمعات الطبية الخيرية، ومستشفيات (مايو كلينك)، التي نشأت قبل 150 عامًا، كمؤسسة غير ربحية، تُقدم كنموذج ناجح في التنمية والتطوير للمشروعات الاجتماعية ذات القيمة المضافة الواسعة في الاقتصاد.
أيضاً نحتاج تبني آلية المشروعات الاجتماعية في القطاع الإعلامي. إذا عدنا إلى تاريخ الإعلام السعودي، سواء في عقود صحافة الأفراد أو حقبة صحافة المؤسسات، كان نشاطه أقرب إلى العمل الخيري. الجيل العصامي من رجال الأعمال دخل أغلبهم في ملكية المؤسسات الصحفية من دافع وطني، فلم يتوقعوا المكاسب المالية ولم يحرصوا عليها، وهذا يفسر عدم اهتمام أعضاء الجمعيات العمومية للمؤسسات الصحفية بأوضاعها الصعبة الحالية!
المؤسسات الإعلامية الحالية، سواء الخاصة أو العامة، تراجع دورها وفقدت قاعدتها الشعبية. معالجة هذا الخلل في المنظومة الإعلامية يتحقق عبر بناء (مشروعات إعلامية خيرية) تكون بديلة للخاصة. هذا مسار إعلامي تميزت به العديد من الدول الغربية، ويقدم نموذجاً للإعلام النابع من المجتمع والملتزم بالقيم والأخلاقيات التي تحرص عليها الغالبية من الناس. هذا الالتزام الذاتي مرده الحرص على العلاقة المتميزة مع الجمهور حتى يستمر في دعمه المالي.
هذا المسار الخيري الحاجة الماسة له تكبر مع دخول التواصل الاجتماعي الذي أوجد بيئة تنافسية أثرت على نمط الإعلام التقليدي الذي اندفع في سباق وتنافس وجودي أفقده جديته ورصانته وجرفته إلى الإثارة التي أبعدت عنه جمهوره الأول ولم يكسب الجديد.. وبالتالي خسر حصته السوقية! هذا المسار يقدم (آلية عملية لاحتواء) مخاطر الإعلام على مكونات الأمن الوطني عبر تقديم منتجات بديلة جاذبة للناس، وهذا أفضل من مطاردة الأشباح!
كذلك خدمات ومنتجات القطاع الثالث في مجال الإسكان تقدِّم الآلية العملية السريعة لتوفير السكن الملائم لأصحاب القدرات المالية الضعيفة. لدينا الآن نموذج ناجح لتجميع الجهود الأهلية أطلقته وزارة الإسكان وهو (مؤسسة الإسكان التنموي الأهلية)، بالذات مبادراتها منصة (جود الإسكان) التي أثبتت أهمية إشراك القطاع الخيري للتصدي للقضايا الحيوية، وقدمت حتى الآن بحدود 360 مليون ريال لأكثر من 18 ألف مستفيد، وتساعدنا يومياً على تقديم الصدقة الجارية (دفعت بلاء).