د.فوزية أبو خالد
كنتُ أعيش بنيويورك لعدة أعوام على شوق لعناق أطياف بلادي ولثم ثرى أرضها ولمس سماها..
وعلى ثراء نيويورك المعرفي من جريدة النيويورك تايمز إلى نادي شعراء نيويورك ومن مجمع الثقافات بالأمم المتحدة إلى متحف الفن الحديث ومتاحف الأطفال والحديقة المركزية بوتنيكال بارك ومن المكتبة العامة ومكتبات جامعة نيويورك وكولمبيا إلى مكتبة بارنزاند نوبل ومكتبة أمازون بين الجادة الخامسة والسادسة, فإن وجداني كان يعيش حالة تقشف كمن يدخر قرش قوته ليوم العيد أو كمن يخبيء احتدامات أحاسيس الخطبة لليلة العرس، لريثما ينتهي الحجر الصحي والعزل العاطفي.
***
لذا فقد كنتُ في حالة وجد جياش لقراءة وإعادة قراءة الوطن ومناطقه ونخيله وبحره وبره وبيوته الطين و»المسلح» وآباره الجوفية وآباره الذهبية الجديدة شديدة السواد وكتبه ودفاتره وأقلامه وخبزه ووجوه أطفاله ورائحة قهوته وشظف مدارسه وشغفه بالعلم وأمزجة شعبه وسرائر صباياه وصبابات شبابه وسيرة الأمهات والآباء والأجداد وسيرة الكفاح والكبوات وثوابت الاستقرار ومراحل التحولات فوجدتها دفعة واحدة لحظي العظيم في كتاب عنوانه سنوات الجوف/ ذكريات جيل.
***
عن عمد وترصد وقصد دخلتُ كمين الكتاب وطفقت في عتمة العزلة اغترف الضوء لمحجري أو ما أسميه «غار القراءة» من تلك الينابيع الجوفية العذراء.
***
كنتُ في مطلع قراءتي للكتاب قد كتبتُ التغريدة التالية بحتُ فيها لدكتور عبدالواحد الحميد والمهتمين من جمهور توتر بموجدتي المبكرة في كتاب الجوف والجوى وجنة المشتاق:
«مسيرتك المشتقة من شمس سكاكا ومن حي الشعيب وسوق البحر ومن شعلة طفل تدرج على مدارج الحياة والتجارب الحية من فتى يافع يراسل صحف المركز بأنباء موطنه القريب البعيد في مصبات القلب وعلى الأطراف إلى طالب جامعي دكتوراه بأقصى قارات العالم بأمريكا الشمالية... إلى أستاذ جامعي بأعرق جامعة للعلوم الطبيعية في الوطن/ جامعة البترول ومدير تحرير بكبريات الصحف ورجل قرار في وزارة العمل هي ما أعكف على قراءته في كتاب سنوات الجوف ذكريات جيل, فلا غرو هذه الأرشفة لسيرة البلاد».
***
إلا أن تلك الكلمة لم تكن إلا حدساً مبكراً بكنوز الكتاب الذي لم يكن أرشفة تخزينية لسيرة البلاد بل كان استحضاراً تاريخياً وشخصياً حياً لملامح أرض تنحدر من ماضٍ سحيق وتشكل أمام عيوننا مجتمعاً ووطناً لبنة لبنة وريشة ريشة بالمعنى السيسيولوجي والإنثروبولوجي وبالعمق الجغرافي والتاريخي.
ومع اتساع أفق الكتاب وبه استطاع الكاتب أن يجعلنا نعيش تفاصيل صغيرة ومتموجة لحياة وطن في طور التنمية من خلال معايشة مرحلة الطفولة ومطلع الشباب لحياة مواطن سعودي ولد في الخمسينات وتفتحت مداركه وحواسه في ستينات القرن الميلادي العشرين والتحق بالجامعة في السبعينات وكان من الفوج الثاني على الأرجح للأجيال التي كانت محظوظة بفرصة الالتحاق بالتعليم النظامي العام والجامعي مما لم يكن متاحاً لجيل آبائهم.
***
فعلى الصعيد العام تأخذ السيرة بألبابنا من تلابيبنا إلى الجوف ومنها إلى مدينة سكاكا تحديداً لنجوبها رأسياً وأفقياً من كعبها لهامتها ومن فجرها لمساها، من تاريخها الموغل في القدم وشرف العمران المبكر إلى حاضرها الفعال في التنمية ومن بعدها الجغرافي عن مدن المملكة الرئيسة إلى التحامها بقضاياها الوطنية داخلياً وعربياً، بل وعالمياً. من شظف الحصول على جريدة أو كتاب إلى تأسيس أول مكتبة عامة ودار للثقافة والعلوم, ومن قضايا التحرر في الجزائر ومصر وفلسطين إلى الحرب بين ثوار الفيتكونج وحكومة فيتنام الجنوبية وما عرف بحرب أمريكا في فيتنام فنعيش مواسم زرع الجوف وسكاكا ومطرها, براح مراعيها وقيعانها وحزومها، محطات حل القوافل وارتحالها, «سمنها البري عسلها وإقطها وخبزها البيتي ورطب الحلوة الرطيب، طقوس صومها وأعيادها, شراكة الجيرة في مد موائد إفطار رمضان الجماعية في برحة المساجد, إشعال جذوع النخل وسعفها ونصب مشاعل «العُدا» ليالي العيد، احتفائية أعراسها بالعرضات والسامري والفنون الفلكولورية وقصائد محمد الطراد, صخب أسواقها البسيطة ونداءات باعتها, لقاءات أهلها في «الشبات»، تشابه وتعدد نسيجها السكاني، صرامة أساليب الضبط الاجتماعي فيها المعنوي والمادي، وتسامحها العفوي في تقبل الجديد والآخر والتحولات من إعادة بناء المدن والبيوت بلمسة عصرية لتوطين البادية، ومن تعليم بعض البنات الّذي بدأ عفوياً وبشكل غير رسمي بالتحاق بعض البنات للدراسة في مدارس الأولاد إلى مساهمة أهل الجوف في شراء أرض لتبنى عليها أول مدرسة لتعليم البنات تعليماً نظامياً.
***
أيضاً يبدو الكتاب حفياً بتمثيل القوى الاجتماعية التي كانت تدير المشهد الحياتي اليومي والعام للحياة في الجوف وخاصة مدينة سكاكا فنتعرف عليها من خلال نشاطها وتفاعلها وتأثيرها في مختلف مناحي الحياة. فهناك الشباب والشيوخ، المزارعون والتجار, الموظفون الإداريون والمعلمون، وهناك إمارة الجوف بمسؤوليها الرسميين الكبار ومساعديهم، وهناك القضاء والشرطة. واللافت هو محدودية إن لم يكن انعداماًَ أي من الطيف العريض لأعمال الخدمات العامة في القطاعين العام والخاص مما كان قد شاع بالمدن الكبرى في المملكة كالرياض وجدة، فلم يكن هناك صحفيون باستثناء على ما يبدو أ.خالد الحميد الذي كان يعمل تطوعاً مراسلاً لصحف الرياض وجدة بأخبار المنطقة, ولم يكن هناك قوى مهنية عاملة إلا في أضيق الحدود كأطباء ومحامين ومهندسين وكهربائيين وخبازين وخياطين وبناءين الخ ومن وجد منهم فقد كان من خارج المنطقة أو خارج المملكة. كما كانت الفروقات الطبقية رقيقة جداً بين الأغنياء والفقراء بشكل ملموس في الكتاب وإن لم يستطع الكاتب أو لم يرد التزاماً بأمانة الكلمة أن يخفي الفروقات العريضة بين النساء والرجال التي جعلت النساء كقوة اجتماعية لا تحظى إلا بموقع ظلي في سيرة الجوف لتلك المرحلة باستثناء بالطبع بعض الومضات الخاصة بتجربة الكاتب مع نساء الأسرة وبالأخص والدته مما سأفرد له وقفة لاحقاً.
أما سؤال أين عبدالواحد الحميد طفلاً وشاباً يافعاً ثم مراسلاً صحفياً ثم شاباً راشداً وطالباً جامعياً ثم أستاذاً جامعياً ونائباً لرئيس تحرير جريدة اليوم ثم وكيلاً لوزارة العمل وكاتباً للرأي فهو ما سأكتب عنه في مقال الأسبوع المقبل في تناول سنوات الجوف على صعيد السيرة الشخصية للكاتب.
وإن كان لابد من التنويه أن السيرة قد كُتبت بوحدة موضوعية في الجمع بين سيرة وطن ومجتمع وسيرة الذات إلا أن فصلي لها في المقال بحلقتين متواليتين ليس إلا فصلا إجرائيا لاستكشاف جمال العام والخاص لهذه السيرة ولتفحص تفاصيلها وأخيلتها وفضاءاتها وكمائنها عن قرب ما أمكن.