إن الفضيلة لتوشح الإنسان بخلال الخير من محبة واحترام وتفانٍ وحكمة وصدق، إلا أن وجود (الشر) قد يستلزم الكراهية والاستبعاد، مما ينافي شمائل الفضيلة، لذلك كان ديكارت يقول «إن الفعل الذي يصدر عن كراهية الشر لا يمكن أن يكون فعلاً جليلاً أو نبيلاً» والحق أن الحياة الأخلاقية الصحيحة لا تقوم إلا على المحبة، وليس المفروض في المحبة أن تقتصر على ما هو أهل للحب أو أن تقتصر على التعلق بمن يحمل قيمة أعظم، بل إن المحبة الحقيقية شعاع يسطع على كل ما يقع عليه، ولهذا فقد أعلن الحكماء الأخلاق من قديم الزمان أن المحبة الحقيقية إنما هي محبة الأثمة والمذنبين وضحايا الشر، فالمحبة الصادقة لا تخشى التنازل عن كرامتها والهبوط إلى مستوى الأشرار والتلوث بمخالطة جماعة المذنبين، بل هي تنزل إليهم وتتعاطف معهم وتغمرهم بعطفها.
والمحب الحقيقي يعلم يقيناً أنه ليس من واجبه أن يبغض الشر أو يكره الكراهية، بل أن يعمل على استئصال الشر وتحطيم الكراهية، وحينما يتحدث بعض حكماء الأخلاق عن محبة الكراهية فإنهم لا يعنون بها محبة الشرير بوصفه شريراً، بل محبة الشرير بوصفه إنساناً تعيساً أو مخلوقاً شقياً تشفق عليه وتأخذ بيده لتعالج ما أعيا به نفسه من الشر، وفي رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة حين نادى بنصرة الإخوان وشد عضدهم في الحق والباطل في قوله «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً» فنصرته ظالماً بتصحيح أخطائه وكشف ما التبس عليه من شرور وطغيان وتحوير مساره إلى الخير، كما أن الإسلام أعلى من قدر فضيلة التسامح، ذلك أن من شأن هذه الفضيلة أن تضحي بعلاقة القانون والنظام في سبيل علاقة المحبة، وبالتالي فإنه يمثل فاتحةً لعهدٍ جديد، هو عهد المحبة، هذا إلى جانب أن التسامح عربون ثقة يفتح للمذنب حساباً جديداً في سجل المستقبل الخيّر، وليس التسامح بعد هذا وذاك سوى صورة من صور السخاء لأنه يعطي حيث لا يتوقع الأخذ، ويحب حيث لا يتوقع المبادلة، وإن كانت محبة الإنسان أرفع شكل من أشكال الفضيلة لأنها محبة سخية فياضة تحاول أن تخوض عباب الشر فتتعاطف مع موجودٍ شقي تعلم أنه ليس إلا ضحية مسكينة له، وهكذا تجد المحبة الخالصة نفسها وجهاً لوجه أمام الكراهية الخالصة، في سعي حثيث لإنقاذ ذلك المخلوق التعيس من حياة الشقاء، وبذلك تتجلى المحبة الحقيقية (محبة الشرير لا محبة شرّ الشرير).
وأختم بحديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في محبة الشرير والرغبة في خلوصه من الشر (لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِن أَحَدِكُمْ كانَ علَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فلاةٍ، فَانْفَلَتَتْ منه وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فأيِسَ منها، فأتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ في ظِلِّهَا، قدْ أَيِسَ مِن رَاحِلَتِهِ، فَبيْنَا هو كَذلكَ إِذَا هو بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ، فأخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قالَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ).