د.فارس بن متعب المشرافي
تقول ماري لين رامبولا في كتابها دليل الكتابة التاريخية, ترجمة أ.د. تركي بن فهد آل سعود ود. محمد بن عبدالله الفريح, «بينما لا يتغير الماضي، فإن اهتمامات المؤرِّخين وأسئلتهم التي يطرحونها تتغير ... فاهتماماتهم اهتمامات مجتمعاتهم، وقضاياهم هي التي تقود اختياراتهم للموضوعات وللأسئلة التي يطرحونها». لا يتغير الماضي ولكن ربما يتغير سؤال المؤرِّخ، ربما كلمات رامبولا تنطبق على القضية الفلسطينية اليوم, كيف ذلك؟
نستطيع أن نقيس هذا على ما قاله الأمير بندر بن سلطان بن عبدالعزيز آل سعود في قناة العربية، حيث وصف القضية الفلسطينية بأنها «قضية عادلة ولكن محاموها فاشلون» وعلى العكس من ذلك القضية الإسرائيلية. هنا يأتي تغير السؤال التقليدي لدى الباحث العربي عن القضية الفلسطينية؟ كيف تكون القضية عادلة والمحامون فاشلون؟
اعتاد المؤرِّخ العربي أن يطرح سؤال بحثه، فيما يخص القضية الفلسطينية، يجادل في إثبات حق العرب في أرض فلسطين، وتعدي الكيان الصهيوني على الأرض العربية، وهذا حقيقة ليس هناك عربي أو مسلم يختلف حول ذلك، حتى إن كثيراً من المؤرِّخين الغربيين يعترفون بالجرائم التي اقترفتها حكوماتهم ضد الشعب الفلسطيني والتحيز التي مارسته تلك الحكومات مع الكيان الصهيوني وضد الدولة الفلسطينية, وهذا واضح جداً في كتابات المؤرِّخ ارنولد تونبي, على سبيل المثال. وفي هذا السياق اعتاد المؤرِّخ العربي بحث القضية الفلسطينية لإثبات الحس القومي لديه ولدى دولته أو الدول العربية الأخرى، مؤكداً بذلك المؤامرة الدولية ضد القضية العربية الأساسية، وهذا كذلك من حقه في قضية يراها قومية في جوهرها. إلا أن هذا التوجه القومي، في كثير من الأحيان، قد تاجر بهذه القضية.
وبنفس المعيار تقريباً، ينطلق المؤرِّخ من منظور ديني، فيبني سؤاله على أساس إثبات حق المسلمين في حكم فلسطين، فهو يجادل بأن الأقصى من مقدسات المسلمين التي يجب أن تكون تحت الحكم الإسلامي. وربما هذه الدعوة هي أساسية يجب أن نتمسك بها نحن المسلمين تجاه هذا المقدس ولا ينبغي أن نفرط به، إلا أن هذا التوجه كذلك، مثله مثل الاتجاه القومي، قد تاجر بالقضية الفلسطينية في بعض الأحيان، أوردغان تركيا والإخوان وملحقاتها وإيران الحالية مثال يدل على ذلك.
لقد مضى على القضية الفلسطينية ما يقارب قرن من الزمن، وهذا يكفل أن تستجد أدلة، وتتغير كثير من المواقف حسب الظروف والعوامل التاريخية. يؤكد هذا المؤرِّخ الأمريكي جيمس ماك فيرسون - في الموقع الإلكتروني للجمعية التاريخية الأمريكية- بأن تفسيرات الماضي تخضع للتغيير استجابةً للأدلة والأسئلة ووجهات النظر الجديدة التي تكتسب بمرور الوقت. والحقيقة أن هناك الكثير من المتغيرات التي طرأت على القضية الفلسطينية، ليس فقط من المواقف الدولية، ولكن كذلك من مواقف قيادات فلسطينية ذاتها تجاه العرب أنفسهم، ومن قيادات طائفية مسلمة تجاه مسلمين آخرين، وأصبحت القضية الفلسطينية مستهدفة، الكثير يحاول استغلالها لتمرير أجندة معينة. ربما ما أقوله مزاعم، في عين بعض المهتمين بشأن هذه القضية، ولكن للرد على هذه المزاعم ينبغي أولاً الإجابة على سؤال ماذا قدم الفلسطينيون أنفسهم للقضية الفلسطينية؟
هذا السؤال يجعلنا فعلا نتعرف على القضية العادلة التي فشل محاموها في كسبها- كما يقول الأمير بندر بن سلطان. في إعادة النظر للماضي، نجد أن هذه القضية ومحاموها (قياداتها الفلسطينية) مروا بعدة منعطفات وأحداث. على سبيل المثال أيلول الأسود 1970-1971 وهي محاولة انقلاب منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات، لإطاحة بالنظام الملكي في الأردن. موقف منظمة التحرير من معاهدة كامب ديفيد في عام 1979، ومن ثم عقد اتفاقية أوسلو بعدها تقريباً بعشرين عاماً في 1998، هذه المعاهدة، التي في نظر كثير من المحللين أنها، أسوأ من معاهدة كامب ديفيد فيما يخص الحقوق الفلسطينية. بعد ذلك تأتي مسألة وجود منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، بعد طردها من الأردن في نهاية الستينيات حتى عام 1982 حين أجبر الجيش الإسرائيلي المنظمة بالخروج من جنوب لبنان، ومن ثم التوجه إلى تونس. ثم يأتي بعد ذلك موقف الرئيس منظمة التحرير الفلسطينية من الغزو العراقي للكويت عام 1990. والحدث التاريخي الأخير الذي ربما اختتم به، هو اتفاق مكة 2007، الاتفاق الذي حاول من خلاله الملك عبدالله بن عبدالعزيز - رحمه الله- أن يصلح بين قيادة فتح وحماس، إلا أن هذا الاتفاق فشل.
السؤال الذي ينبغي أن يتغير عن السياق التقليدي في ظل الظروف التي نعيشها الآن, ويطرحه المؤرخ في القضية الفلسطينية هو هل مواقف القيادات الفلسطينية من خلال هذه المنعطفات والأحداث التاريخية كانت تخدم القضية الفلسطينية؟ وسواء الرد على هذا السؤال يكون بالنفي أو الإثبات، يجب على المؤرِّخ أن يفسر لماذا وكيف حدث ذلك؟
** **
رئيس قسم التاريخ - جامعة الملك سعود