بالأمس غير البعيد، وتحديداً بتاريخ 8 أكتوبر 2006م، كنت في رحلة عمل رسمية إلى عروس البحر الأحمر؛ مدينة جدة التي كم يحملني الشوق إليها، وفي واحد من أرقى الفنادق بجدة، اصطحبني موظف الخدمة ومعه حقيبة أغراضي إلى الغرفة المخصصة لي، وفتح الباب، وأدخل الحقيبة، ثم بدأ يشرح لي تفاصيل الغرفة التي كانت تحفة فنية في دهاناتها، ومنافعها، وتوزيع أثاثها الفاخر، ثم أشار بيده إلى ستارة كبيرة وقال: (وخلف هذه الستارة توجد شرفة تطل على البحر)، قلت بصوت لم أستطع إخفاءه: (الله.. البحر!)، ثم يبدو أن الرجل قرأ في عيني لهفتي لرؤية البحر، فاندفع نحو الستارة، ففتحها، وفتح الباب المؤدي إلى الشرفة، ثم بأدب جمّ طلب مني المرور إلى الشرفة، فشكرته بحب كبير وقلت له: (لا.. بل أقفل الباب والستارة؛ فلمثل هذه المتعة وقتي المفضل).
في اليوم التالي، وقبيل غروب الشمس بساعة تقريباً، حان موعدي المفضل لمعانقة البحر؛ ففتحت الستارة، ثم باب الشرفة، واقتربت شيئاً فشيئاً حتى بدا البحر أمامي بسكونه الرائع وكورنيشه الجذاب، وفجأة ارتبكت دقات قلبي، واهتز جسدي، وارتجفت أنفاسي، وأنا أرى بحر دير البلح في فلسطين الحبيبة يرتسم أمامي بوجه حزين يتّشح بابتسامة الشوق والحنين وربما الغيرة أيضاً، نظرت إليه بعين العاشق الملهوف، ثم استسلمت منصتاً له وهو يعاتبني: ما هذا يا عادل؟ أأغراك بحر جدة، فأنساك إياني؟!، فكتبت بحرقة البعد وآهة الغربة مقالي الموسوم «بحر جدة أم بحر دير البلح».
كان ذلك بالأمس، أما اليوم فقد كانت رحلتنا (وأعني بنون الجماعة هنا «مالكة القلب وتوأم الروح؛ نعمة، وأنا») إلى المنطقة الشرقية في رحلة عمل شخصية، وللأسف -نظراً لقصر المدة من جهة، ومن جهة أخرى وهي الأهم؛ كإجراء احترازي في مواجهة فيروس العصر (كورونا) الذي اجتاح العالم، والذي لم تزل علامات الاستفهام تلتف حوله- لم يتسع لي التواصل مع الأحبة فيها لأسعد بلقائهم وتجديد الأنس بهم.
ولما أتيح لنا المزيد من الوقت، قمنا بزيارة شاطئ نصف القمر في مدينة الخبر قبيل صلاة عشاء يوم الخميس 17-9-2020م، وهناك دعوت الغالية (نعمة) لمرافقتي في النزول إلى المياه، لكنها لم تفعل لعدم جاهزيتها لذلك، فوجدتني أعود بذاكرتي إلى طفولتي مع شاطئ مخيم دير البلح، حيث كنت أهرول الجرف نزولاً إلى الشاطئ، وأخلع ملابسي وأقذف بها أمامي قطعةً قطعة لتتناثر على رمال الشاطئ، وعلى الفور أرمي بنفسي في حضن البحر، وأسبح بعيداً في العمق، ثم أعود فارداً صدري في حضن أمواجه إلى الشاطئ، وها هي تنهيدتي تسائلني: ياااه يا عادل؛ كيف تحمّلت كل هذا البعد عن مخيمك، وعن شاطئك، وعن لحظة غروب الشمس؟، ومع تساؤلي هذا عدت إلى نفسي لأجدني أسبح في مياه نصف القمر، ومن وقت لوقت أنظر إلى الشاطئ فيخطف روحي ضياء وجه حبيبتي وضي عيني (نعمة)؛ فتهنأ روحي وأواصل محاكاتي لذكرياتي.
وفي أثناء وجودي في المياه في مكان غير بعيد عن الشاطئ، أقبل نحوي أحد الإخوة السعوديين وكان الوحيد في المياه في تلك اللحظة، فألقيت عليه السلام، فرد التحية بمثلها، واقترب كل منا نحو الآخر، وصدق من قال «رب صدفة خير من ألف ميعاد»، لقد سحرني الرجل (أخي أبو إبراهيم) بحلاوة لسانه، وأصالة خصاله، وعذوبة وداده، تحدثنا مطولاً، وبحروف ترافقها الابتسامات تعرَّف كل منا على الآخر، وكم كنت سعيداً وأنا أنصت إلى الكثير من قصص رحلاته إلى شاطئ نصف القمر (الهاف مون) منذ ما يزيد على الأربعين عاماً، ثم ملأني بهجة وهو يحدثني عن أجداده ورحلاتهم التجارية إلى فلسطين قبل احتلال جلّها عام 1948م، وما حملوه من ذكريات ملأى بمشاعرهم الرائعة تجاه أهالي المدن التي حطُّوا رحالهم فيها، وكم كانت نفسه تنتفض فخراً وشموخاً، وهو يخص بالذكر «القدس»، و»الخليل»، و»حيفا»، و»عكا»، و»غزة»، لقد لفتني الرجل وهو يسرد أحاديثه الشيقة بأسلوب سلس رصين، ينمّ عن ثقافة واسعة؛ ما شاء الله، تبارك الله، لا قوة إلا بالله، وسلام الله عليك يا أبا إبراهيم.
عدنا إلى شقتنا في مدينة الدمام والبهجة، تملؤنا ولا ينقصها إلا عدم نزول غاليتي (نعمة) إلى المياه، فقررنا تكرار الزيارة، وكان لنا ذلك بعد عصر يوم السبت 19-9-2020م، وهذه المرة -وفور وصولنا- دخلنا المياه معاً؛ يداً بيد، تداعبنا مياهه النظيفة وتلاطفنا تموجاته الخفيفة، وكم استشعرت ابتسامتي تملأ كياني وأنا أسخر كلَّ طاقاتي انتباهاً لها، وخوفاً عليها، وهناءً بما لمسته من سعادتها ورضاها.
بقينا في المياه حتى غروب الشمس، والغروب هنا يختلف تماماً عن غروب شمس بحر دير البلح؛ إذ إن شمس نصف القمر تغرب وهي تبتعد عن المياه والشاطئ، أي تغرب باتجاه الناظر إلى الشاطئ وهو في المياه، بينما تغرب شمس دير البلح وخطوطها ترتسم على سطح المياه، مُشكّلة ذلك المشهد الساحر، ثم تتوارى خلف البحر وكأنها تغوص فيه، آهٍ يا شمس المغيب وألف آه.
ولما عدنا إلى استراحتنا؛ وهي إحدى الكبائن الخرسانية، راحت الغالية (نعمة) بإحساسها الرقيق وسَمتها الأنيق تبدي إعجابها الشديد بما تميّزت به تصاميم هذه الكبائن المتنوعة والمنتشرة على امتداد كورنيش الشاطئ، والمزودة بالمرافق الخدمية اللازمة؛ وفي مقدمتها خزانات المياه الحلوة، والإنارة، وأماكن الوضوء، والمصليات، ومواقف السيارات، وعمال النظافة المكلفون بنظافة الكبائن وما حولها على امتداد الوقت. ويا لروعتها (نعمة) كم أذهلتني وهي تختم وصفها لكورنيش شاطئ نصف القمر بالابتهال إلى الله سبحانه وتعالى أن يحفظ لهذه البلاد ولاة أمرها، وأن يحميها من كيد الكائدين، وأن يديم على شعبها الأمن والرخاء، وأن يمنّ علينا باسترداد حقوقنا وتطهير أرضنا وسمائنا وهوائنا وبحرنا من أيدي الغاصبين.
وما أن ختمت الغالية دعاءها حتى رحت أؤمن عليه بصوت تصاحبه غصة الشوق والحنين؛ «اللهم آمين يا رب العالمين».