اللواء الركن م. د. بندر بن عبدالله بن تركي آل سعود
مثلما قالت العرب من قديم: قطعت جهيزة قول كل خطيب، استطيع القول اليوم بملء الفيه: قطع صاحب السمو الملكي أخي الأمير بندر بن سلطان بن عبدالعزيز آل سعود، قول كل مزايد؛ إذ ألجم حديثه المتدفق الثَّر، مزايدات أولئك الغوغائيين كلهم، الذين طالما تطاولوا علينا وعلا صراخهم ونبيحهم لدرجة أغرى حتى أطفالهم الذين لم يبلغوا الحلم بعد أن يقتفوا أثرهم ويسيروا على خطاهم في البذاءة والنذالة والكذب والتلفيق ونكران الجميل، وهذا السيل الآسن من الإساءة لبلاد الحرمين الشريفين والتعريض بقياداتها والسخرية من شعبها الطيب النبيل، الذي أفنى العمر كله في الدفاع عن حق فلسطين، ملبَّياً النداء بكل صدر رحب، كلما دعاه قادته لنجدتها وإغاثتها ومد يد العون لها، ولكم في الطفل (بلال محمد عبدالعال) خير شاهد.
ولعمري، هذا أمر ثابت بالوثائق (صور حيَّة) بثتها الفضائيات في العالم كله لحرائر سعوديات عربيات أصيلات شهمات، وهن يتجردن من حليهن التي تزن آلاف الكيلو جرامات، ليضعنها في صندوق إغاثة شعب فلسطين ودعمه لتمكينه من الصمود ضد صلف العدو الصهيوني، ليس هذا فحسب، بل بلغ الأمر حداً أكثر من هذا، دفع الصغار للتبرع بمصروفهم المدرسي وهداياهم الثمينة لنجدة فلسطين وهم يشعرون بالفخر والاعتزاز لنصرة العروبة ومؤازرة إخوة العقيدة؛ ناهيك عن تبرعات القيادة السعودية الشخصية السخية، وتبرعات الدولة ورجال المال والأعمال، التي تجاوزت مئات الملايين كلما نادى المنادي أن أغيثوا فلسطين. فأصبحت السعودية أكبر داعم عربي لقضية فلسطين على مر التاريخ.
وبالطبع، لم نكن نفعل هذا سمعة أو رياءً أو تسجيلاً لموقف سياسي، فنحن أبعد ما نكون عن مثل هذه المزايدات الرخيصة الفجَّة قيادة وشعباً، بل حادينا في هذا التزامنا بعقيدتنا وبرسالة بلادنا السامية العظيمة في نصرة المسلمين حيثما كانوا، ودعمهم بالغالي والنفيس لتجاوز ما يعتري حياتهم من تحديات، إضافة لنصرة إخواننا في الدم.
أجل، لقد استمتعت بمزيد من الاهتمام لحديث أخي صاحب السمو الملكي الأمير بندر بن سلطان بن عبدالعزيز آل سعود لقناة العربية، وسرده لقضية فلسطين منذ عام 1935م بأسلوبه الدبلوماسي الشيق، مؤكداً موقف المملكة الثابت تجاه قضية فلسطين، لاسيما تلك الأحداث التي كان شاهداً عليها في الفترة بين عامي 1978 - 2015م، موجهاً حديثه للسعوديات والسعوديين.
والحقيقة، أجدني في غنىً تام عن إعادة كلام سموه الكريم هنا، إذ أوفى الرجل وزاد، غير أنني أردت أن أشير فقط إشارة سريعة لما جاء في حديثه من وفاء لقادتنا الكرام، وثبات موقفهم حتى في أصعب الظروف وأقسى اللحظات التي يسيل فيها الدم من خنجر (قادة) فلسطين المسموم الذي ينهش في جسد أهل الخليج، لاسيما بلاد الحرمين الشريفين، ومع هذا لم يتوقف دعم قيادتنا الرشيدة لحظة واحدة، فنحن لسنا أصحاب مزايدات وشعارات نبيعها للناس، نحن أصحاب مواقف كما أكد أخي الأمير بندر في شهادته.
فأول شيء تكلم عنه المؤسس الملك عبدالعزيز آل سعود، في أول لقاء له مع رئيس أمريكي (روزفلت)، كان عن فلسطين، وضرورة إيجاد حل ناجع لقضيتها العادلة؛ وكذلك كان هم أبنائه الكرام البررة الغر الميامين الذين تعاقبوا على قيادة السفينة من بعده، بل ذهب الأمر إلى أبعد من هذا، إذ تحمَّل قادة السعودية طيش ما يسمى بـ(القيادات الفلسطينية). ولا بد أنكم تذكرون جيداً دور حكيم العرب الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود، وتحمله أخطاء المسؤولين الفلسطينيين، وتنصلهم من كل ما يتفقون عليه مع الأمريكيين، ومراوغتهم وكذبهم، والتفافهم لدرجة دفعت الرئيس الأمريكي الأسبق كلينتون لوصف أبو عمار بأنه (كذاب). ومع هذا كان الفهد يحاول جاهداً أن يجد لهم عذراً، انطلاقاً من مسؤولية رسالة بلاده تجاه العرب والمسلمين.
أجل، لقد بذلت القيادة السعودية الرشيدة على مر التاريخ كل ما في وسعها مع المجتمع الدولي لاسيَّما مع أمريكا، واستثمرت مواقف سياسية عديدة كلفتها كثيراً من الجهد والوقت والمال، خدمة لقضية فلسطين؛ وكلما جاءت ببشارة لانفراجة ما في الموقف، تنصل (المسؤولون) الفلسطينيون، بل ذهبوا أبعد من هذا، فاتهموا القيادة السعودية بالخيانة والخنوع لأمريكا والانقياد الأعمى لها، ومحاولة شراء رضاء قادتها؛ مع أن مواقف السعودية التي تبدو لأولئك الحمقى محدودي النظر، الذين لا يتقنون من لعبة السياسة شيئاً، كانت أولاً وأخيراً بدافع خدمة قضية فلسطين.
يقولون عنَّا مثل هذه الادعاءات الرخيصة، ويتآمرون علينا مع أعداء الأمة من إيران وتركيا وتوابعهما، ومع هذا يؤكد الفهد في لقاءاته كلها مع مسؤولي العالم كله شرقه وغربه، شماله وجنوبه الذين يحاولون جاهدين تصفية قضية فلسطين: لن نسمح بسلام يكون خصماً على حساب فلسطين مهما كلفنا الأمر.. ويدوي صوت الملك عبدالله بن عبد العزيز آل سعود في اجتماعات الجامعة العربية ومؤتمرات دعم فلسطين متبرعاً بآلاف ملايين الريالات دعماً للأشقاء في فلسطين، مؤكداً بصوته الجهور الحاسم: إن قطرة واحدة دم الفلسطينيين هي أغلى عندنا من كنوز الأرض وما احتوت عليه. وها هو خادم الحرمين الشريفين، سيدي الوالد المكرم الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، يترأس اللجان الشعبية، لجنة تلو أخرى منذ كان أميراً على الرياض لنجدة فلسطين وإغاثة شعبها ودعم قضيتها حتى تقوى على الثبات والدفاع عن موقفها العادل؛ ناهيك عمَّا يبذله اليوم هو وولي عهده الأمين أخي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، من جهود حثيثة صادقة لدعم فلسطين في المحافل الدولية. ويذكرني هذا بتوجيه المؤسس لابنه محمد لكي يترأس أول لجنة عربية على الإطلاق تم تشكيلها في السعودية لدعم فلسطين، وتحريض رؤساء القبائل لإحداث ضغط شعبي على الغرب.
أجل، هكذا هو دأب قيادتنا الرشيدة الذكية الحكيمة وشعبنا الوفي، منذ اللحظة الأولى التي تسرَّبت فيها فلسطين من بين يدي أهلها، بل قبل ذلك، أيام الانتداب البريطاني عليها وظهور بوادر اغتصابها إلى اليوم. وسيظل الجهد السعودي بشقيه الرسمي والشعبي متصلاً إلى أن تعود فلسطين لأهلها ولأحضان الأمتين العربية والإسلامية بسيادة كاملة تامة غير منقوصة. إذ لم يحدث أبداً أن قطعت القيادة السعودية علاقاتها بفلسطين أو خذلتها حتى إن كان (قادة) فلسطين يغرسون خناجرهم المسمومة سرَّاً وعلانية في ظهرنا ليل نهار.
وصحيح، كم هو مؤلم ومفجع ومؤسف ومقزِّز لدرجة الاشمئزاز هذا الذي يمارسه (قادة) فلسطين من صلف وخذلان وإساءة ممجوجة ونكران للجميل، بل سب وشتم وادعاءات كاذبة، لا تمت للأخلاق العربية الأصيلة بصلة، وتبدل في المواقف والولاءات، وضياع للفرصة الذهبية الثمينة التي طالما اجتهد قادة السعودية الكرام في انتزاعها من المحتل الغاصب بضغط على المجتمع الدولي، لا سيَّما على أمريكا نفسها، نصير دولة الاحتلال وراعيها الروحي؛ بل خيانة للعهد حتى ذلك الذي أدوا يميناً غليظة باحترامه في رحاب بيت الله الطاهر. لكن على كل حال، فاقد الشيء لا يعطيه. فها هم الذين يسمون أنفسهم (قادة) فلسطين، مختلفين شيعاً وأحزاباً، حتى بلغ اليوم عدد الحركات المسلحة، الحركات الإسلامية، حركات الجهاد الإسلامي والفصائل الفلسطينية وأخواتها، عدداً يفوق الوصف ويجل عن الحصر، إذ يكفي أن تعلم أيها القارئ الكريم، أن في غزَّة وحدها اليوم أكثر من خمسين فصيلاً مسلحاً كلهم يدعون وصلاً بليلى، ناهيك عن اختلاف (الكبار) وظهور سلطتين سياسيتين تنفيذيتين منذ ثلاثة عشرة سنة في الضفة الغربية بقيادة (فتح) وأخرى في قطاع غزَّة بقيادة (حماس).
وأكاد أجزم اليوم أن هؤلاء الذين يسمون أنفسهم (قادة) العمل السياسي الفلسطيني هم تجار وسماسرة مستثمرون (كبار) في قضية بلادهم، يشتمون العدو بالنهار ويسبونه، ثم ينسقون معه لحفظ الأمن الإسرائيلي متعقبين كل من يشهر سلاحاً ضد اليهود أو يهدد سلامتهم واستقرارهم؛ بل يزيدون على هذا، فيجتمعون مع قادة اليهود على موائدهم ويشاركونهم في لياليهم الحمراء، وثمَّة صور فاضحة كثيرة يخجل منها حتى الشيطان لـ(قادة) فلسطينيين كبار (تؤكد) هذا، ودونكم الميديا. بل أكثر من هذا: في أحد لقاءاته الفضائية، صرح أحد رؤساء الموساد السابقين أن عدد الطلبات التي قدمها فلسطينيون للتعاون مع الموساد ضد (قيادات) فلسطين وشعبها لتعطيل مسيرتها، فاق حاجتهم. ولا بد أن كل متابع قد شاهد على الفضائيات شهادات دامغة لخونة فلسطينيين خدموا الموساد سنين عديدة، ثم رماهم الإسرائيليون اليوم ليعيشوا متسولين في الشوارع والأزقة، ويشاركوا الحيوانات الضالة في طعامها وشرابها ومنامها. ولهذا كله وغيره كثير مما لا يتسع المجال لسرده هنا، لا استغرب هذا الكم الهائل من الفرص الثمينة الضائعة، حسبما جاء في حديث أخي الأمير بندر، التي ضيعها (قادة) فلسطين ثم جاءوا يتباكون على ضياعها.
وختاماً، اكتفي بالتأكيد على النقاط الجوهرية التالية:
1. ولاؤنا لفلسطين ثابت لن يتزحزح قيد أنملة مهما ولغ سفلتها في أعراضنا وشككوا في ذمتنا ونكروا جميلنا عليهم، إلى أن تعود فلسطين لأهلها المساكين المغلوبين على أمرهم. ومواقف قيادتنا تجاهها لن تتغير أو تتبدل أبداً مهما أمعن (قادة) فلسطين في نكران الجميل، لأننا أصحاب رسالة. وكما قال أخي الأمير بندر بن سلطان في حديثه الشيق الذي أشرت إليه: سيبقى القراد قراداً، ويبقى الجمل جملاً إلى الأبد.
2. لقد آن الأوان للشعب الفلسطيني الشقيق أن يسحب البساط من هذه (القيادات) المتهالكة التي استمرأت المتعة بالدولار والدرهم والدينار والليالي الحمراء والجوازات الدبلوماسية الغربية والشرقية؛ ويتحملوا مسؤولية العمل مع الأشقاء والأصدقاء المخلصين لتحرير بلادهم من قبضة الغاصب.
3. على الشعب الفلسطيني الشقيق أن يدرك يقيناً أن تحرير فلسطين لن يتم إلا عبر ما أكده الملك عبدالعزيز قبل أكثر من سبعين عاماً، وأهمه عودة المهجرين. وليس عن طريق الدولة الصفوية والدولة العثمانية، إذ يكفي أن تتأملوا ما فعلته هاتان الدولتان بالأمتين العربية والإسلامية في معظم الدول العربية اليوم، من العراق إلى ليبيا.. وأحسب أنني لست في حاجة لشرحه.
صحيح، قد يبدو هذا الحديث صعباً، إلا أنه حقيقة لا بد من إدراكها ومعرفتها ومواجهتها. فقد اختلفت الأمور كثيراً جداً، وتسارعت الأحداث بسرعة الصاروخ، فيما تتمترس (القيادات) الفلسطينية خلف أوهامها التي أكل عليها الدهر وشرب.