عبد الرحمن بن محمد السدحان
* لن أنسَى ما حَييتُ ذكرياتٍ ومواقفَ لمسيرة هذا القلم منذ أن بدأ (الحبوَ) في جادة الحرف الجميل قبل نحو خمسة عقود بكلمات تطغى على بعضها عفة البراءة، وبراءة القصد، وحماس الحلم بتجاوز هذه المرحلة المبكرة من سيرته، آملاً في أن يبلغ بلاط الحرف يومًا ما شأنًا أجمل!
***
* كانت أول (بشارة) فرح بميلاد حلم الكتابة حين تلقّى سمعي هذا السؤال في منزلنا من صديق لسيدي الوالد، وزميله في العمل الأديب الراحل خالد محمد خليفة، رحمهما الله، إذ فاجأني متسائلاً: (لماذا لا تكتب يا عبدالرحمن)؟!
***
* وقع السؤال على سمعي عزفًا أخّاذًا من الفرح والحبور، خاصة وأن مصدره لم يكن ذا صلة قريبة من صاحب القلم الموعود بالولادة (الأدبية)، ولم يكن السائل يعرف عن المعنيّ بالسؤال سوى أنه ابن صديقه ورفيقه في المراسم الملكية، الشيخ محمد بن عبدالله السدحان طيب الله ثراه.
***
* التزمت لحظتئذ الصمت أمام هيبة السائل والسؤال، وعقدت المفاجأة لساني حين تلبسني (خفر عذريٌ)، ترحيبًا بالسؤال وتحفظًا على الرد، خاصة في حضور سيدي الوالد طيب الله ثراه الذي تولى الردَّ (نيابة عني) بالقول: (يا خالد، دع عبدالرحمن وشأنه، الدراسة الآن هي شغله الشاغل)!
***
* كنتُ لحظتئذ أقوم بواجب الضيافة المعتادة لسيدي الوالد وضيفه الزائر حين أطلق الأخير سؤاله المفاجئ والمذهل معًا! جاء السؤال استجابة غير مباشرة لحنين دفين في أعماق الخاطر بأن أمارس الركض البريء في مسار الحرف الأكثر براءة مني، وظننتُ أن السؤال سيكون له شأن في حياتي ولو بعد حين، وفي الوقت ذاته، تفهمت تحفظ سيدي الوالد على السؤال، تقديراً لعبء مرحلتي الدراسية، استعداداً لامتحان الكفاءة المتوسطة ذلك العام، وخوفًا على فلذة كبده أن يَجرفَه تيار الكتابة بعيدًا عن مسار الدراسة تحصيلاً ونجاحًا! باختصار، لم أصدق ما تلقفته أذناي، لكنني أدركت مغزاه وردة الفعل تجاهه عقلاً ووجدانًا!
***
* عدتُ إلى (صومعتي) في منزل الأسرة، وقد بدأت أستعيد (الوعي) الذي هزّ شباكه الأديب الراحل خالد خليفة، وفجأة، وقبل أن أستوي أمام منصّة كتبي وأوراقي، انطلق من لساني سؤال (مُضاد) مشحون بالتحدِّي: (ولِمَ لا.. يا عبدالرحمن؟!)
***
* في تلك اللحظة بعينها، اهتزت في خاطري ولأول مرة (نشوة) الرغبة في الكتابة، وعقدت العزم على البدء في تحقيق ذلك فورًا! لم أشأ بادئ الأمر أن أخرج على إرادة سيدي الوالد ممثلة بردّه المباشر على سؤال الأديب الزائر. وعاد جرس السؤال السابق يعزف من جديد: أجل لماذا لا أبدأ (الآن).. وعلى بركة الله، سائلاً ربي أن يسامحني لقاء (معصية) والدي (بمخالفة) رغبته خوفًا عليّ، والشروع في تحقيق حلمي القديم الجديد بكتابة أول مقال عن إحدى خدمات أمانة مدينة الرياض في حي الملز، مقر سكني. تحدثت فيه عن تسرّب المياه الجوفية من (حديقة الحيوان) المجاورة للحيّ شرقًا، وتحول بعضها إلى مستنقعات صغيرة في حديقة منزلنا، وقس على ذلك حدائق المنازل الأخرى المجاورة.
***
* نظرت إلى كلمات (مولودي) الأول مرسومة بأصابع ترتجف على الورق أمامي وأنا لا أكاد أصدق أنني بالفعل قد تجاوزت مرحلة (الولادة) الصعبة للمقال الأول في حياتي. وألفيتني بلا شعور (أقبّل) القلم الذي ساعدني على تحقيق حلمي وصادر هاجسَ الخوف والتردّد من بين أصابعي!
***
* كانت محطة (الولادة الأولى) لحرفي المتواضع في صحيفة (القصيم) المولودة حديثًا آنئذ، وسررت بنشر المقال كما كان دون تعديل ولا حذف، والأهم من ذلك، تعليقٌ ذيّلت به الصحيفة مقالي مبشرةً بمولد قلم جديد يعد أدبيًا بالكثير!
***
* استأنفت بعدئذٍ الكتابةَ وأنا اتوسل إلى خالقي العظيم أن تسبح كلماتي القادمة في مياه آمنة أكثر صفاءً وأهدأ رياحًا بعيدًا عن (صقيع) الخوف من الخطأ.. أو من عتب مَنْ يهمني أمرُه من الناس، يتقدمهم سيدي الوالد رحمه الله!
ومرت (رحلة العبور) الأولى بسلام!