لقد خلقك الله في هذه الأرض لتحيى حياة طيبة هانئة، ولا يمكن أن تحيى على هذه الأرض ما دمت بعيداً عن حقيقتك، تتوارى خلف الحواجز المدركة أو غير المدركة، وتتوانى عن سبر أغوار المعرفة الموصلة لذاتك. إن وجودك في هذه الحياة دون أن تكون حقيقتك أشبه ما يكون بذات ضائعة لا تعرف نفسها ولا أصل وجودها ولا وجهتها، تبعثرها الرياح يمنةً ويسرة، وتُشكلها مجريات الحياة وأحداثها.
إن الذات المزيفة مبرمجة فكرياً ومشاعرياً، تراكم عليها الماضي، وتأثرت بعوامل بيئية وتربوية جعلتها تنصرف نحو دوافع غير حقيقية كاللذة والجاه والمال لإشباع فراغها والتي سرعان ما تُفتَقد لتشعر بالعدمية والدونية، متخذةً سلوكيات لا منطقية وفقاً لتلك البرمجة والدوافع، في حين أن الذات الحقيقية هي التي تعبر عمن أنت في الحقيقة، تعبر عن مسؤولياتك وقيمك السامية وعن قراراتك التي تتخذها برغبة داخلية وعن اختيارك لأن تكون إنساناً ذا توجه نحو القيمة والمعنى، وهذه الذات الحقيقية يقبع فيها معتقدات سامية، لكن بسبب طغيان الذات المزيفة واستخدامنا لها بكثرة جعلها تعلو على السطح وتطفو بذلك ذواتنا الحقيقية، كما أنها تستخلص معاني جليلة من المواقف، وتتساءل عن الاتجاه الذي ينبغي أن تتجه نحوه، وعن المعنى الذي ستتخذه تبعاً لمصلحة ذاتها الحقيقية، ووفقاً لطبيعة إدراكها والمعاني التي تستشفها فتتخذ ردود فعل عقلانية تجعلها في توافق مع نفسها ومع المجتمع.
حتى تستبصر الحقيقة عليك أن تتساءل عدة أسئلة منها: ما هي ذاتي الحقيقية؟ أين هي وجهتي؟ ما الذي يجب علي فعله لأشعر بالرضا الداخلي؟ ما الذي يعيقني عن إدراك ذلك؟ هل أنا متأثر بأفكار من حولي التي أظن أنها أفكاري الحقيقية؟ ما هو نهجي الذي أسلك به دربي؟ ما الشوائب العالقة في داخلي التي تتغذى بها ذاتي المزيفة؟ إن طرح مثل هذه الأسئلة العميقة يجعلك تزيح الغبار لتصل إلى اليقين الذي تنشده ما لم تستعجل الوصول، ذاتك الحقيقية ضائعة ليس لأنك لم تكتشفها، هي ليست كياناً جاهزاً يُنتظر اكتشافه، هي ضائعة لأنك لم تصنعها فلم تدركها، رغم ظهور مؤشرات في عدة مواقف أوحت لك بوجودها لأنها فطرتك التي جئت لتعيشها في هذه الحياة. إن سعيك نحو أن تكون حقيقتك لا يعني أنه قد لا تظهر بعض المواقف التي تعبر عن ذاتك المزيفة، وإدراكك لبشريتك يسهل عليك عدم الشعور بالتناقض.
من الوسائل المعينة في صنع ذاتك الحقيقية أن تتساءل في حال مرور المواقف وخاصة السلبية منها عن كيفية إدراك المواقف، وعن المعنى والقيمة والدافع من الموقف، والاستجابة السلوكية الناتجة، وذلك لكل من الذات المزيفة والذات الحقيقية، حينها تستطيع أن تدرك الفرق بينهما في التعامل مع هذا الموقف وتتجه نحوه وهكذا في بقية المواقف، أيضاً من الوسائل المساعدة أن تتبنى نموذجاً (تصوراً) مفصلاً للذات الحقيقية يشمل -كيف تكون ذاتي الحقيقية- مشاعرياً، فكرياً، اجتماعياً، شخصياً، ..الخ وتبدأ تتقمص هذا النموذج شيئاً فشيئاً، ووسيلة أخرى مثل أن تستخرج مصفوفة قيمك الفعلية بعد تفنيد أفكارك وتحولها لأهداف عملية يمكنك تحقيقها وبها تصنع ذاتك الحقيقية.
أن تكون حقيقتك يعني أن تعي وجودك، أن تتواءم مع نفسك، أن تحيا. لا يوجد أسمى ممن صنع ذاته الحقيقية، عرف نفسه فعرف الحياة وخالقها، فعلا نفسياً واجتماعياً وروحياً، وأصبح في تناغم لا يفنى.
يقول ديزيدريوس إراسموس: «إن أسمى ذرى السعادة يجدها الإنسان عندما يكون مستعداً لأن يكون نفسه».