حمّاد بن حامد السالمي
«كتبت هنا قبل اليوم مقالًا عنوانه: (الطائف.. بين الشام ولبنان واليمن..
https://www.al-jazirah.com/2020/20201011/ar2.htm). كان محوره يدور حول العلاقات التاريخية والسياسية والإنسانية قديمًا وحديثًا، ثم فندت من خلاله روايات لمدونين قدامى روجوا لأساطير تُغرّب الطائف جغرافيًا على أنها حقائق، وهي لا تعدو كونها تبريرات لجغرافية الطائف الجميلة المتفردة في بقاع قاحلة ماحلة، وتفسيرات خرافية لحالات وظواهر خارقة للعادة ارتبطت بالطائف.
«قوبل المقال بكثير من التعليقات والمداخلات على قنوات التواصل الاجتماعي، وطلب مني عدد من المتابعين استكمال الفكرة؛ انطلاقًا من أن للطائف حضورًا وتأثيرًا كبيرين في عدة أقطار، وليس في الشام ومصر ولبنان واليمن فقط، خاصة في عصرها الإسلامي زمن الدولة الأموية، ومن أبرز هؤلاء الأحبة؛ أستاذنا الأديب الناشر الأستاذ عبدالرحمن بن معمّر- أمد الله في عمره- وها أنا اليوم أسعى إلى إكمال الصورة الحضارية للطائف في الهند؛ وفي العراق والشام ومصر.
«أول ما عرف العرب الهند بصورة أكبر؛ مع الفتح الذي تم للسند والبنجاب بقيادة ابن الطائف الشاب محمد بن القاسم الثقفي ذي السبعة عشر ربيعًا. ثم توالت الصلات الاجتماعية وما زالت، فقد زار الطائف أو تديّرها؛ عدد من علماء الهند ومشاهيرها وأسرها. وبهذه المناسبة؛ سمعت من الأستاذ الأديب محمد بن خلف الزايدي؛ أنه كان هو- أو صديق له- في إحدى مدن الهند، فرأى لوحة بالعربية على محل نصها: (الرمان الطائفي)..! ووجدهم يبيعون رمانًا ويعصرونه، وهو شبيه برمان الطائف. وهذا في العصر الحديث. ومرّ بي في قراءاتي؛ أن النّجّابة بين دمشق والحجاز زمن بني أمية؛ نقلوا معهم أعوادًا لشجر الرمان، ونقله آخرون في رحلتهم إلى الأندلس، حيث زرعت واستنبتت هناك.
«أما العراق؛ التي كانت معقلًا لقبائل عربية عريقة من العصر الجاهلي؛ فإن محمد بن القاسم؛ انطلق لفتح السند والبنجاب منها، حيث كان ابن عمه الحجاج بن يوسف الثقفي حاكمًا عليها وعلى ما ورائها من بلاد فارس. والعراق كانت ميدانًا لعدد كبير من القادة والفرسان من أبناء الطائف، الذين كانوا مع جيوش الفتح، مثل المغيرة بن شعبة الثقفي- رضي الله عنه- الذي اشتهر من معركة القادسية، وحكم الكوفة والبصرة قبل ولاية الحجاج. فهو من كبار الصحابة أولي الشجاعة والمكيدة. شهد بيعة الرضوان. كان رجلا طويلًا مهيبًا من دهاة العرب، فهو مغيرة الرأي. صحابي كان يقول: (اشكر من أنعم عليك، وأنعم على من شكرك؛ فإنه لا بقاء للنعم إذا كُفرت، ولا زوال لها إذا شُكرت). وحدّث عنه بعض أصحابه قال: (صحبت المغيرة؛ فلو أن مدينة لها ثمانية أبواب لا يخرج من باب منها إلا بمكر؛ لخرج من أبوابها كلها).
«ومن الذين ولدوا بالطائف وحكم في العراق؛ زياد بن عبيد الثقفي- أو ابن أبي سفيان- رضي الله عنه. صحابي وقائد عسكري في عهد الخلافة الراشدة، وسياسي أموي شهير، ساهم في تثبيت الدولة الأموية. ولاه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فارس، وكان يقال إنه كان يمكن أن يسوق الناس لولا نسبه المجهول. لكن أشهر من حكم في العراق هو بلا شك الحجاج بن يوسف الثقفي، الذي أسهم بشكل كبير في تثبيت أركان الدولة الأموية زمن عبد الملك بن مروان والوليد بن عبد الملك. نذر حياته لحرب الخوارج، فقاتلهم حتى أفناهم على أرض فارس. كان يقول: (إني لأحتمل الشر بثقله، وأحذوه بنعله، وأجزيه بمثله). وفي يوم استلامه ولاية العراق؛ خطب من المنبر مقتبسًا أبياتاً لثمامة بن سحيل بن وائل فقال:
أنا ابن جلا وطلاَّع الثّنايا
متى اضع العمامة تعرفوني
صليب العود من سلفي نزار
كنصل السيف وضَّاح الجبين
«أما الشام؛ حيث عاصمتها دمشق وما حولها؛ فإن أشهر حكامها وأعظم خلفاء بني أمية فيها هو معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، من مواليد الطائف. ولاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أميرًا بعد أخ له أكبر منه هو يزيد بن معاوية، فقضى في حكمها 40 عامًا، منها عشرين خليفة للمسلمين. بعدها تقوّت علاقة الشام بالطائف تجارية وثقافية واجتماعية إلى يومنا هذا، ويؤثر عنه قوله: (إنّي لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، كانوا إذا مدّوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها). في ذكائه ودهائه قال عبد الله بن الزبير: (إنا كنا لنخوّفه وما الليث على براثنه بأشجع منه، فيتخوّف لنا، وإنا كنا لنخدعه وما ابن ليلة في الأرض أدهى منه، فينخدع لنا).
«ونأتي إلى مصر وأهلها- خير أجناد الأرض- فإن أول حاكم لها في عهدها الإسلامي؛ هو فاتحها عمرو بن العاص السهمي- رضي الله عنه، الذي ولد بالطائف هو الآخر، حيث قريته ومزارعه بالوهط من أعلى وادي وجّ. وعمرو هذا قاتل المسلمين مشركًا في أُحُد والأحزاب، ولكنّه أسلم في العام الثّامن للهجرة، وجاء إسلامه بعد اقتناع وإيمان وتفكير عميق، ووصف ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (أسلم النّاس وآمن عمرو بن العاص). كان يضرب به المثل في الفطنة والدهاء والحزم. هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمًا في أوائل سنة ثمان للهجرة، فبعثه في غزوة ذات السلاسل، وأرسله عمر بن الخطاب رضي الله عنه على رأس جيش لفتح بيت المقدس، وكان في الرملة جمع عظيم من جند الروم عليهم (الأرطبون)، وهو أدهى الروم، فكتب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب بالخبر، فلما جاء الكتاب إلى عمر بن الخطاب قال: (قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب)- يقصد عمرو بن العاص. ومصر كانت وما زالت أقوى البلدان صلة بالحجاز والطائف تاريخيًا وثقافيًا واجتماعيًا.
«وإلى جانب الحجاج بن يوسف ومحمد بن القاسم فنحن أمام أربعة من حكام الأمصار في العراق والشام ومصر جميعهم ولد بالطائف هم: المغيرة بن شعبة الثقفي، ومعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وزياد بن أبيه رضي الله عنهم. وهؤلاء الأربعة إلى جانب صحبتهم؛ فهم من دهاة العرب المشهورين على مرّ التاريخ. يروى أن الأصمعي قال: (كان معاوية يقول: أنا للأناة، وعمرو للبديهة، وزياد للكبار والصغار، والمغيرة للأمر العظيم). قال المؤرخون القدامى: (معاوية للروية والتدبير، وعمرو للبديهة، والمغيرة للمعضلات، وزياد لكل صغيرة وكبيرة).
«ومثل الطائف؛ مدن كثيرة على خارطة بلادنا العزيزة، لها أمجاد عظيمة، وتأثيرات تاريخية وسياسية واجتماعية كبيرة في بلدان كثيرة، عربية وغير عربية. لنفخر دائمًا بوطننا الكبير؛ المملكة العربية السعودية، في كل وقت وحين.