خالد أحمد عثمان
جاء في الأخبار أن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش وافق يوم الأربعاء 30 سبتمبر 2020 على تسجيل الاتفاقية المبرمة بتاريخ 17 نوفمبر 2019 بين حكومة تركيا وحكومة (الوفاق الوطني) في ليبيا، التي يرأسها فايز السراج والمتعلقة بتحديد الحدود البحرية بين البلدين استناداً إلى المادة (102) من ميثاق الأمم المتحدة.
واعتبرت حكومة تركيا هذا التسجيل بمثابة تعزيز لسياستها في البحر الأبيض المتوسط، حيث قال وزير الطاقة التركي فاتح دوتماز إن تسجيل الأمم المتحدة مذكرة التفاهم الخاصة بالحدود بين تركيا وحكومة الوفاق، عزز سياسة بلاده أكثر في البحر المتوسط. وأضاف زاعماً (إن مذكرة التفاهم التي تم تسجيلها لدى الأمم المتحدة أكسبت سياستنا المتوسطية القائمة على القانون الدولي والحقوق والعدالة قوة أكبر، وكنا نقول دائماً نحن لا ننتهك حقوق أي أحد ولا نتنازل عن حقوقنا في البحر المتوسط). ثم أخذت وسائل الإعلام الرسمية التركية وأبواق جماعة (الإخوان المسلمين) الدائرة في فلكها، تروج أن تسجيل هذه الاتفاقية هو بمثابة اعتراف دولي بها، وأن ذلك يعتبر انتصاراً لسياسة تركيا بشأن شرق البحر الأبيض المتوسط.
وتلكم مزاعم سيظهر هذا المقال بطلانها، ونسلسل الحديث في هذا الشأن على النحو التالي:
أولاً: عانى المجتمع الدولي قبل إنشاء هيئة الأمم المتحدة من المعاهدات والاتفاقيات السرية التي كانت تلجأ إليها بعض الدول للتآمر والعدوان على غيرها، فأرسى ميثاق الأمم المتحدة مبدأ علانية المعاهدات والاتفاقيات الدولية حيث نصت المادة (102) من ميثاق هيئة الأمم المتحدة على ما يلي:
1 - كل معاهدة وكل اتفاق دولي يعقده أي عضو من أعضاء الأمم المتحدة بعد العمل بهذا الميثاق، يجب أن يسجل في أمانة الهيئة، وأن يقوم بنشره بأسرع ما يمكن.
2 - ليس لأي طرف في معاهدة أو اتفاق دولي لم يسجل وفقاً للفقرة الأولى من هذه المادة أن يتمسك بتلك المعاهدة أو ذلك الاتفاق أمام أي فرع من فروع الأمم المتحدة.
يتضح من النص السابق ما يلي:
1 - أن وظيفة الأمانة العامة لهيئة الأمم المتحدة هو تسجيل المعاهدات والاتفاقيات الدولية دون أن يكون لها سلطة البحث في مشروعيتها أو التأكد من استيفائها إجراءات التصديق عليها من قبل الجهات المختصة في الدول الموقعة عليها.
2 - إن عدم تسجيل المعاهدة لا يؤثر في صحتها ما دامت معقودة بصورة قانونية فالمعاهدة غير المسجلة تظل سارية وملزمة لأطرافها إذ يجوز لأي طرف من أطرافها أن يتمسك بها في مواجهة الطرف الآخر أو الأطراف الآخرين أمام أي منظمة إقليمية أو محكمة تحكيم جرى تكوينها بمعرفة الأطراف المعنية للفصل في النزاع معين أو أمام المحاكم الوطنية وغير ذلك من الهيئات الأخرى ما عدا هيئة الأمم المتحدة.
إذ لا يجوز التمسك أو الاحتجاج بها في أي قضية أو مسألة تعرض على أي فرع من فروع هيئة الأمم المتحدة كمجلس الأمن أو الجمعية العامة أو محكمة العدل الدولية إلا بعد تسجيلها على النحو الموضح في المادة (102) من الميثاق، ولذلك وإعمالاً لنص المادة (102) من الميثاق فقد نصت الفقرة الأولى من المادة (80) من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات عام 1969 أن (تحال المعاهدات بعد دخولها دور النفاذ إلى الأمانة العامة للأمم المتحدة لتسجيلها أو قيدها أو حفظها وفقاً لكل حالة على حدة ونشرها).
ومن ناحية أخرى يمكن تسجيل أي معاهدة أو اتفاقية دولية بمعرفة أي طرف من أطرافها، فالتسجيل عمل من جانب واحد ولا يحتاج إلى أي موافقة أو تعاون من جانب الطرف الآخر أو الأطراف الآخرين، كما أن التسجيل يكفل نشر المعاهدة أو الاتفاقية في مجموعة المعاهدات الرسمية التي تصدرها هيئة الأمم المتحدة مع ما يترتب على ذلك من اطلاع العالم على نص المعاهدة أو الاتفاقية.
ثانياً: وإذا كان عدم تسجيل المعاهدة أو الاتفاقية لدى الأمم المتحدة لا يؤثر في صحتها ما دامت معقودة بصورة قانونية، فإن تسجيلها أيضاً لا يضفي على المعاهدة أو الاتفاقية (المشروعية) إن كانت باطلة لأي سبب من أسباب البطلان، فتسجيل المعاهدة أو الاتفاقية لا علاقة له بصحة أو بطلان المعاهدة أو الاتفاقية إذ يجوز لأي طرف من أطرافها أن يطعن في صحة المعاهدة أو الاتفاقية المسجلة لدى الأمم المتحدة أو أمام أي منظمة دولية أو محكمة محلية أو دولية.
والاتفاق البحري الذي وقعه أردوغان والسراج ولد باطلاً بطلاناً مطلقاً لأسباب سبق لنا شرحها في مقالات سابقة ونعيد بيانها بشيء من التفصيل، وذلك على النحو التالي:
1 - الاتفاق السياسي الموقع في مدينة الصخيرات بالمغرب في 17 ديسمبر عام 2015، الذي أيده مجلس الأمن الدولي بالإجماع بقراره رقم (2259) وتاريخ 23 ديسمبر 2015، يعتبر هو الدستور الذي حدد في المرحلة الانتقالية الوضع القانوني لحكومة (الوفاق الوطني)، وما تتمتع به من صلاحيات سواء في المجال الداخلي أو مجال العلاقات الدولية، واتفاق الصخيرات أوجب أن تنال هذه الحكومة ثقة مجلس النواب الليبي المنتخب سنة 2014، وهذا لم يحصل حيث رفض المجلس منحها هذه الثقة مرتين، وبالتالي لم تؤد هذه الحكومة اليمين الدستورية فهي حكومة غير شرعية، ومن ثمّ فإن جميع تصرفاتها سواء في المجال الداخلي أو في مجال العلاقات لدولية باطلة، وحتى لو سايرنا الرأي القائل بأن حكومة السراج حظيت باعتراف المجتمع الدولي اعتماداً على قرار مجلس الأمن سالف الذكر فإن اتفاق الصخيرات حدد مدة ولاية هذه الحكومة سنة واحدة ابتداء من تاريخ حصولها على ثقة مجلس النواب وقابلة للتجديد سنة واحدة أخرى، وحيث إنها لم تحصل على ثقة مجلس النواب، ولكنا باشرت عملها بذريعة اعتراف المجتمع الدولي بها استناداً إلى قرار مجلس الأمن فإن مدة ولايتها تبدأ من تاريخ صدور هذا القرار وهو 23 ديسمبر 2015، وبالتالي فإن مدة ولايتها قد انقضت بتاريخ 23 ديسمبر 2017، وبالتالي فإن فايز السراج عندما وقع الاتفاق البحري مع تركيا كان رئيساً لحكومة ليس لها ولاية، وتبعاً فلا يعتد بأي تصرفات أجراها في مجال العلاقات الدولية.
2 - حتى لو افترضنا جدلاً -جدلاً فحسب- أن حكومة السراج تحظى بالشرعية ومدة ولايتها ما زالت مستمرة، فإنه وفقاً للمادة (8) من اتفاق الصخيرات بأن عقد الاتفاقيات والمعاهدات الدولية يكون من اختصاص المجلس الرئاسي، على أن تتم المصادقة عليها من مجلس النواب وفايز السراج وقع هذه الاتفاقية مع تركيا، دون أن يحصل على موافقة المجلس الرئاسي عليها، كما أنه لم يعرضها على مجلس النواب، وبالتالي تعتبر هذه الاتفاقية باطلة وغير ملزمة للدولة الليبية، وتبعاً فإنه يحق لأي حكومة ليبية قادمة أن تعلن إلغاء هذه الاتفاقية وغيرها من الاتفاقيات التي أبرمتها حكومة السراج دون مراعاة لأحكام اتفاق الصخيرات ودون مراعاة مصالح الدولة الليبية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن المادة (46) من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969، قد نصت على أنه (لا يجوز للدولة أن تتمسك بأن التعبير عن ارتضائها قد تم خلافاً لحكم في قانونها الداخلي متعلقاً بالاختصاص بإبرام المعاهدات كسبب لإبطال رضاها إلا إذا كان اخلالاً واضحاً بقاعدة ذات أهمية جوهرية من قواعد قانونها الداخلي). ولاشك أنه وفقاً لاتفاق الصخيرات المعتمد بقرار مجلس الأمن الدولي فإن الاتفاقية البحرية بين حكومتي أردوغان والسراج قد أبرمت على نحو مخالف لقواعد جوهرية منصوص عليها في اتفاق الصخيرات وهو أن المجلس الرئاسي هو المختص بإبرام المعاهدات والاتفاقيات الدولية ووجوب حصول موافقة مجلس النواب عليها، وهذا لم يحصل إذ انفرد فايز السراج بتوقيع المعاهدة دون أن يفوضه المجلس الرئاسي بهذا التوقيع، ودون أن يعرضها على مجلس النواب للموافقة عليها، والجانب التركي كان يعلم يقيناً بمخالفة السراج للقواعد الجوهرية المنصوص عليها في اتفاق الصخيرات المؤيد بقرار من مجلس الأمن، مما يؤكد أن الجانب التركي كان سيئ النية، عندما أبرم اتفاقية مع شخص وهو يعلم أنه ليس مفوضاً بالتوقيع كما كان سيئ النية عندما طلب من الأمم المتحدة تسجيل الاتفاقية وهو يعلم أنها لم تحظ بالموافقة عليها من قبل الجهة المختصة في ليبيا.
يضاف إلى ذلك أن أردوغان عرض الاتفاقية على البرلمان التركي (الواقع تحت هيمنة أردوغان) فوافق عليها، بينما السراج لم يحترم القواعد الدستورية السارية في بلاده، ولذلك سارع عقيلة صالح رئيس مجلس النواب الليبي إلى الاعتراض على الاتفاقية بل وصفت لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الليبي اتفاقات السراج مع أردوغان في مجال الأمن والمجال البحري بأنها خيانة عظمى وأنها انتهاك لسيادة ليبيا، وكذلك رفضت الحكومة المؤقتة في شرق ليبيا هذه الاتفاقيات واعتبرتها غير مشروعة كما أعلنت القيادة العامة للجيش الوطني الليبي اعتراضها على هذه الاتفاقيات، وبذلك أصبح معلوماً لدى الطرف التركي بل والمجتمع الدولي أن الاتفاقية البحرية مشوبة بالبطلان لعدم استيفائها الإجراءات الدستورية اللازمة لإبرامها والمصادقة عليها. كما أنه يحق لأي دولة أخرى تمس هذه الاتفاقية مصالحها وحقوقها مثل اليونان أن تطعن في شرعيتها ورفض الاعتراف بأي اثر لها، لأن القاعدة المستقرة في القانون الدولي أن المعاهدة أو الاتفاقية الدولية ملزمة لأطرافها فقط فالمعاهدة لا تنشئ حقوقاً ولا تفرض التزامات إلا على عاتق الدول التي ارتضت بها وفقاً للقواعد العامة في التعبير عن الرضا، فإذا كانت المعاهدة أو الاتفاقية ضارة لدولة أو دول أخرى فمن حق هذه الدول الاعتراض عليها ومنع امتداد آثارها إليها وهذا ما يعرف بمبدأ (نسبية أثر المعاهدات الدولية) وهذا المبدأ مبني على أساس مبدأ راسخ في القانون الدولي هو مبدأ المساواة والاستقلال بين الدول، وهناك استثناءات ترد على مبدأ نسبية أثر المعاهدات يخرج الحديث عنها عن نطاق هذا المقال، وتجدر هنا الإشارة إلى أن اليونان طردت سفير حكومة السراج احتجاجاً على الاتفاقية المبرمة مع تركيا. والواقع أن الاتفاقية تتعارض مع أحكام اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لأنها تجاهلت وجود جزيرة كريت اليونانية، وافترضت تبعاً لذلك وجود مناطق بحرية مشتركة بين تركيا وليبيا. ولذلك كان وزير الخارجية اليوناني محقاً عندما قال إن الاتفاق البحري بين ليبيا وتركيا يتجاهل شيئاً شديد الوضوح، وهو أن بين هاتين الدولتين يوجد كتلة ضخمة من الأرض وهي جزيرة كريت، وبالتالي فهذه الاتفاقية منافية للعقل. كما وصفت مصر الاتفاقية بأنها غير شرعية ولا تلزم ولا تؤثر على مصالح وحقوق أي أطراف أخرى، ولا أثر لها على منظومة تعيين الحدود البحرية في منطقة شرق المتوسط.خلص من جميع ما سبق أن المزاعم التركية بأن تسجيل الاتفاقية البحرية لدى الأمم المتحدة يعزز الموقف التركي ويعد اعترافاً دولياً بها، هي مزاعم مثل زبد البحر الذي يذهب جفاء.
** **
- محام وكاتب سعودي