هدى مستور
فلسفة الآخر، صالح بن إبراهيم السكاكر
بدأ الباحث كتابه المثير للفضول بمقدمة، تفتح شهية القارئ العربي المتجدد، لتفضيل التقاط كتاب (الإنسان الآخر، فلسفة الآخر)، وإيثار قراءته على غيره، بل البدء على الفور بالنهل من محتواه، فالكتاب ينتمي لذلك الطراز النادر على المكتبة العربية، الذي ينتشلك الباحث على حين غرة باتجاه عوالم متناقضة وأبعاد متصادمة خارج حدود المكان والزمان حيث المجهول، في حين أنك تفاجأ بأن هذه العوالم بتناقضاتها الصارخة وإشكالياتها الشائكة قابعة بداخلك!
ففي مقدمته التعريفية يصف ويصنف كتابه «إن هذا المبحث دراسة لذلك الشيء الغامض الذي دائما يجادلنا ويحاورنا ويخاصمنا هذا الشعور المتولد بداخلنا هو ما نسميه الإنسان الآخر، هذا الشعور حقيقة أم قادم من الخيال، لنجد صديقاً نثق فيه، فنحاوره ونجادله، إنه الإنسان الآخر فتعالوا ندرسه ونفهمه.
الكاتب اكتفى بعدد من أشهر وأعمق المؤثرين في العالمين العربي والعالمي؛ إذ بدأ بشخصية عربية وتحديداً نجدية مثيرة للجدل ولازال يكتنفها الغموض ويحيط حولها اللبس، حتى غادرت الحياة. إنه «عبدالله القصيمي» الذي لا يعرف عنه عوام الناس ولم يقرأوا أياً من مؤلفاته المحظورة، مكتفين بما يشاع عنه، مستدلين باقتباسات من عدد من كتبه.
بدأ المؤلف باقتباسات من السيرة الشخصية بقلم القصيمي نفسه، وهو يسرد في رسالة له توصيف حزين وآسر، لحجم مرارة الحرمان والمعاناة التي تلقاها في طفولته والتي جمعت بين حرارة طباع أهل الصحراء، وقسوة الفقر وجدب العواطف والقحط الإنساني وخشونة التدين هذا فضلاً عن الاغتراب عن حضن الأم ورعاية أب. رحلة القصيمي حول الذات بدأت من خلال رحلته الكوكبية الأولى والتي انتهت إلى الحلم الكبير «الأزهر»، ولكنه أفاق من الحلم حين تعرض لصدمة عنيفة، تعد كما وصفها من أقوى الصدمات. إذ في تلك الفترة ولأسباب سياسية مورست ضغوط عديدة على القصيمي وضد كل من ينتسب لأرض الجزيرة، وتفاقم ذلك بعد فصله من الأزهر، فتجسدت معاركه من خلال عدد من كتبه التي دافع فيها عن الوهابية، وهاجم فيه الأزهر وعدد من علمائه، وفي هذه المرحلة التي صدر كتابه الشهير (الصراع بين الإسلام والوثنية) يرى الباحث أن الانسان والإنسان الآخر متفاهمان، ولكن الإنسان الآخر لم يلبث ليطل برأسه ويظهر تمرده بأعماق القصيمي، تجسد ذلك في كتابه «هذه هي الأغلال» الذي ظهر فيها الآخر بصورة ثائرة ومتمردة ولكن على السلفية هذه المرة بوجه خاص، وعلى عموم التدين، وإن كان من الباحثين من يرجع ذلك كصورة تعبيرية عن تمرد الطالب المتميز على معلميه حينما لم يجد له قبولا كأحد العلماء الأكابر.
ينتقل به ذلك الصراع بين الإنسان والإنسان الآخر إلى المرحلة التالية التي أعلن فيها ثورته ضد عدد من الموروثات باعتبارها السبب الرئيس في حالة ما أسماه الانحطاط الحضاري والتخدير الفكري والجمود الإنتاجي. لفت اهتمامي أن الباحث حفظ للقصيمي سره، حين أعلن تحفظه من الحكم عليه، والاتفاق على تسمية حالته بالانشقاق والابتعاد عن مصطلحات الكفر والزندقة.
فيدور دوستوفيسكي والإنسان الآخر
يشرح الباحث أنه في روايته الشهيرة (الإخوة كارامازوف) يرسل رسالة مفادها أن كل التجاذبات والتناقضات بين هؤلاء الإخوة ماهي إلا جوانب ثلاثية لشخصيته التي تعني المراحل الثلاث لحياته؛ فـ»دميتري» الرومانسي هو يصور المرحلة الرومانسية التي عاشها حتى دخوله السجن و»إيفان» هو يمثل الإنسان والإنسان الآخر عبر السنين التي أعقبت السجن التي كانت الاشتراكية الإلحادية قد حلت محل الإيمان الديني الخالص، وأما «أليوشا» فهو النتيجة لنهاية الطريق والعودة إلى الأرثوذكسية الروسية ! فالإنسان الآخر عند دوستويفسكي ما هو إلا الشك الاعتقادي الذي يقود إلى الإيمان الخالص المنزه عن كل شيء. يطرح الباحث تساؤلا كيف نجح هذا الكاتب العظيم الجامع بين الموهبة والفن الروائي والفلسفي العميق؟! كيف استطاع أن يجمع كل المتناقضات وكل تلك المشتركات في شخوص رواياته؟ كيف استطاع أن يحول الروايات إلى فن شامل يخوض في علم التحليل النفسي وفي مداخل ومخارج الفلسفة؟ بل في الإنسان نفسه لقد كان دوستويفسكي بما يحوي داخله من إنسان وإنسان آخر، يحتوي على أفضل وأجمل معاني الجمال الإنساني وعلى النقيض السلبي من معاني الضعف والتشتت والغياب..؟.
ابن خلدون في حضرة الإنسان الآخر:
جلس يتأمل الماضي الذي لا يتغير بل هو سبب صناعة المستقبل، وتغيير الحاضر، بدأ هذا العبقري الذي كان الإنسان والإنسان الآخر متحدين صوب هدف محدد ألا هو دراسة الماضي وأخذ العبر منه وتقديمه للحاضر في شكل دروس يستقي منها الفرد أو الدولة الطريق القويم نحو المستقبل الواضح، فابن خلدون بما يمثله هذا التفاعل الديناميكي فيه بين الإنسان والإنسان الآخر، يعتبر أكبر مفكر سياسي اجتماعي منذ وفاة أرسطو حتى زمننا الحاضر. كان الإنسان الآخر عند ابن خلدون يحلم بتحقيق طموحه السياسي ولكن كثير من تلك المحاولات انتهت به بالسجن والطرد أو هروبه من مواجهة الواقع، كل هذه المآسي شكلت بداخله حالة عجيبة من التفاعل الإيجابي بين الإنسان والإنسان الآخر مما ولد في ذاته نوعاً من الاعتقاد الجازم أن كل الأحداث ماهي إلا حلقات متشابكة ومترابطة بشكل طبيعي وبلا انقطاع، ولذا يجب النظر التأملي الدقيق نحو الماضي لفهم الحاضر والتنبؤ العميق بالمستقبل.
الكتاب قرأته مرتين ولا بأس بثالثة، فهو ثري بالمعلومات العميقة والاقتباسات المختارة النفيسة، لأشهر الشخصيات الخالدة، وأكثرها تأثيراً، وتفوقاً في التعبير عن حالة التمرد والفردانية، وفوق ذلك أظهر الباحث قدراته الذهنية في الربط والتحليل، وإجراء تحليلات نفسية دقيقة، تأخذك من نفسك لتعيدك إلى نفسك.