قبل الخوص في وباء العثمانية الجديدة التي تسعى بشكل حثيث لخلخلة توازن بلدان العالم العربي على خلفية الانتفاضات الشعبية، وتعمل على إثارة العواصف في حوض البحر المتوسط نتيجة تقلبات الظروف والسياسات الدولية لا سيما بعد جائحة كورونا، ومؤخراً ودون سابق إنذار ضربت بعض دول القوقاز، قبل هذا وذاك لا بد من سردية تاريخية قصيرة تمهد الطريق لفهم العثمانية الجديدة على خلفية إرثها القديم. ليس فقط للوقوف على دياجير هذا الحكم الذي أسدل ظلامه على مساحات شاسعة من بلاد الله الواسعة وصلت أوروبا وآسيا وإفريقيا لقرون عدة، إنما حتى يكتمل المشهد عبر زوايا تبدو غير مرئية للبعض في زحمة تسارع وتواتر الأحداث اليومية وفي أكثر من بؤرة يتم تسخينها والنبش فيها.
بادئ ذي بدء، ومنعاً للوقوع في فخاخ التحامل لا بد من مقارنة تاريخية سريعة ما بين العثمانية كحالة عدوانية صرفة وما بين مراحل متجاورة أو متلاحقة زمنياً، نقول متجاورة لسهولة المقاربة من جهة والوصول للخلاصات التي تمس الحياة العامة من جهة أخرى. دون أن نخوض في سياق الصراعات والمكائد العسكرية، لذا يبدو الأنموذج الأكثر قرباً للقيام بهذه المقاربة يتجسد في الحملة الفرنسية على مصر ومن ثم انتداب كل من سوريا ولبنان. نظراً لتوسط هذه المرحلة ذروة نقطة انعطاف في منحنى تاريخ المنطقة، أي تربط مرحلة الاحتلال العثماني مع راهن مآلات دول المنطقة خلال القرن الماضي وصولاً ليومنا هذا.
في البداية لنتوقف عند الحملة الفرنسية على مصر، حيث جلب معه نابليون بونابرت نحو ألفي شخص لا يمتون للعسكرة بصلة، من صفوة رجالات فرنسا في العلوم المجردة والاجتماعية وفنون العمارة والهندسة والصناعة والإدارة، وربما يجهل البعض أن فكرة شق قناة السويس كانت واحدة من هواجس مهندسي الحملة. لولا أن اعتقاداً سائداً حول اختلاف منسوبي المتوسط والبحر الأحمر حال دون ذلك، لكان بونابرت شق القناة وربما غير كلياً مجرى دفة التاريخ. تماماً كما أسست حفريات رجاله في أرض الكنانة وأوجدت لاحقاً علم المصريات، وفك شامبليون لغز حجر الرشيد، وانتهت الحملة بأطنان من الكتب والمؤلفات. لا تزال تعد من أهم المراجع التي يعتمد عليها أكاديمياً.
الشيء ذاته تكرر مع الانتداب الفرنسي على كل من لبنان وسوريا حيث كانت المنطقة للتو خارجة من عزلة الحكم العثماني، في حالة تشبه خروج السجين من عتمة الأقبية إلى الشمس. سرعان ما عمل الفرنسيون على مأسسة الدولتين إدارياً وسياسياً، وانطلقوا في رسم المخططات الهندسية للمدن والقصبات لمعرفة احتياجات البنية التحتية، وفتح المجال أمام الصناعة والتجارة مع العواصم الأوربية، ولا تزال الأبنية التي شيدها الانتداب بخبرات فرنسية وأيادٍ محلية قيد الخدمة إلى اليوم، مثل مبنى البرلمان السوري 1928، والمتحف الوطني بدمشق الذي صممه المهندس الفرنسي الشهير إيكوشار. إضافة لمئات المباني المهمة في كل من حلب وبيروت، ويكفي الإشارة إلى أن الترام الكهربائي الذي ربط حواري حلب مع بعضها منتصف عشرينات القرن الماضي كانت من صنع شركة ترامواي الفرنسية. عدا عن تأسيس مدن كاملة في الشمال السوري. القامشلي وكوباني وعفرين، لإدارة شؤون أكثر من ألف قرية كانت مهملة وملحقة إدارياً بحواضر بعيدة.
من ناحية ثانية، الوجود الفرنسي في كل من مصر وسوريا ولبنان وبلدان المشرق العربي. خارج السياق العسكري والحربي كما نوهنا، أوجد شبكة معقدة من العلاقات الثقافية التبادلية مع العمق الأوروبي الذي كان يعيش أوج مرحلة النهضة الصناعية والفكرية والفلسفية، لذا لم يكن غريباً محاكات كثير من أدباء وفناني العالم العربي للآداب والفنون الأوروبية، وانتشرت ثقافة المنتديات والصالونات وتحول البعض منها لممارسة الشأن العام، ولا يغفل على أحد متانة العلاقة التي نشأت بين العلامة الحلبي زكي الأرسوزي وبين جان غولمبيه مستشار التعليم في دمشق، هذا من قبيل التنويه. ذات التجربة تكررت في بيروت والقاهرة ودمشق وغيرها من المدن، ومن يعود للأرشيف السوري الذي أسسه الفرنسيون يجد أن عشرات المطابع انتشرت في المدن الرئيسة ووصلت نسخ الصحف والدوريات للقصبات البعيدة. كل هذا ولم نتحدث بعد عن القيام بإنشاء العشرات والمئات من المدارس والجامعات والمشافي عدا عن إدخال الآلة والكهرباء للصناعة والحياة العامة، وربما يكفينا تصفح أرشيف فندق بارون الحلبي لنكتشف حجم الانفتاح والتبادل الثقافي الذي رافق تلك المرحلة.
قد يظن البعض. وربما تهرباً من الراهن، أن كل ما سبق لا يأتي سوى من باب الإطناب والتطبيع مع مرحلة تاريخية حساسة وقلقة. وإننا تناسينا عن عمد كفاح وتضحيات شعوب بلدان العالم العربي لنيل استقلالها. حقيقة كل ما ذكرناه لا يلغي ذلك ولا يمحو من الذاكرة التاريخية قسوة أي احتلال كان. وحتى تكتمل الصورة السابقة لا بد من الوقوف على خلفية المشهد التاريخي لتلك المرحلة. كي تأخذ الحقيقة كفايتها من الحياد، حيث خيّم الظلام والجور لقرون طويلة ومملة على عالمنا العربي. تم فيها تسخير واستعباد البشر والشجر والحجر لصالح الحكم العثماني.
وقبل الحديث عن مرحلة الاحتلال العثماني لنتوقف بعجالة عند قصة سليمان الحلبي وتهديدات الوالي العثماني إبراهيم باشا لوالده. لما تحمله قصة هذا الشاب المنحدر من منطقة عفرين في شمال غرب سوريا الكثير من الأبعاد والعبر. سياسية كانت أم معيشية وحياتية، وتختصر علينا مسافات الغوص في رعونة الحكم العثماني. القصة بأبعادها الحقيقية، بعيداً عن التحريف، سواء تلك المرويات التي سايرت المزاج العثماني حينذاك، أو تلك التي توافقت لاحقاً مع أجندات التيارات القومية العربية والكردية.
تمضي كل السرديات التاريخية أن سليمان الحلبي 1777 - 1800م قدم إلى مصر طلباً للعلم في الأزهر الشريف، وأنه شاهد ما لا يحمد عقباه من جور الفرنسيين بحق مصر وشعبها، لذلك خطط بمفرده لاغتيال الجنرال كليبر قائد حملة نابليون. وكان له ما أراد، طعنه وأرداه قتيلاً. أما الصورة الغائبة عن هذا السرد التاريخي المتعارف عليه والذي لا يروق للبعض يلخص على النحو الآتي. توجه سليمان الحلبي تحت ضغط وتهديدات والي حلب إبراهيم باشا العثماني، الذي فرض ضرائب باهظة على سكان المدينة خاصة التجار، وكان من بين هؤلاء تاجر الزيت والد سليمان الحلبي، وكاد الوالي أن يرمي به في السجن نتيجة عجزه عن تسديد الضرائب المفروضة عليه، لذا لجأ سليمان الحلبي إلى أحد وجهاء المدينة للتدخل، جاء رد الوالي العثماني. مكيدته، بعدما كشف شجاعة الشاب. دفعه نحو مصر وكلفه القيام باغتيال أحد ضباط الحملة الفرنسية وزوده بما يلزم من خدمات لوجستية تعينه على تنفيذ مهمته.
عندما ألقى الفرنسيون القبض على سليمان الحلبي وكلوا له محامياً ومترجماً، وتم عرضه على لجنة مؤلفة من قضاة مدنيين وعسكريين. وصدرت نتائج التحقيق والحكم عليه بلغات ثلاث، الفرنسية والعربية والتركية. وتم توزيعها على العوام في كل من مصر وفرنسا.
بأي حال من الأحوال، وبعيداً عن المرويات في قصة سليمان الحلبي لا يمكن مقارنة الحكم السابق وإجراءاته، حتى لو كانت شكلية، مع النظام القضائي الذي كان سائداً خلال الحكم العثماني، حيث الإعدام بالخازوق أو التوسيط، وهي ثقافة عثمانية دأب عليها بعض الولاة عبر شطر المحكوم إلى نصفين في حال رفض أوامرهم. لا بل وصلت الأمور للجلد والسلخ وغيرها من فنون التعذيب التي أنتجتها الثقافة العثمانية، وربما تأتي فنون التعذيب النقطة الوحيدة التي تحسب للعثمانيين. طبعاً هذا فيما لو اعتبر البعض التعذيب مأثرة تستحق الاحتفاء، في حين وصل النظام الضريبي العثماني خاصة في بلاد الشام حداً لا يطاق، لدرجة أن بعض الفلاحين قطعوا أشجارهم هرباً من الضرائب الباهظة التي قصمت ظهورهم، وحتى الآن يتناقل سكان حلب ودمشق قصص اختفاء أجدادهم في حروب عبثية قامت بها السلطنة، ولا تزال حكايا. سفربرلك، حاضرة في مرارة الوجدان الشعبي، وبرع في ذلك الوالي العثماني أحمد خورشيد عندما شكل عام 1808 فرقاً من المرتزقة ودفع بهم للقتال في صربيا، وكرر التجربة نفسها مع المرتزقة في قمع المصريين، ولا تزال كلمة. دُوُل، في تركيا تدل على وصمة عار ارتبطت بمن لا أصل له وكانت تطلق على مرتزقة أيام زمان، في حالة مشابهة لما يجري اليوم.
الجانب الآخر، وربما الأكثر أهمية وخطورة يكمن في نقطتين اثنتين. الأولى في أن العثمانيين نقلوا خلال سنوات حكمهم خيرة الحرفيين والصناعيين المهرة من البلاد التي احتلوها ودفعوا بهم إلى القسطنطينية، خصوصاً في المجالات الحربية، وبات العلماء والمهندسون في حالة تشبه الإقامة الجبرية، أما النقطة الثانية تتجلى في طريقة التلاعب بديموغرافية الكثير من المناطق. سواء داخل تركيا الحالية أو في البلاد التي سيطروا عليها وكانت تلك واحدة من أخطر مفاعيل الاحتلال العثماني لا تزال كثير من المناطق تدفع ثمنها إلى اليوم.
وإذا كانت قضية الأرمن الأكثر بروزاً بحكم ما رافقها من مجازر تقشعر لها الأبدان، والأكثر تطرقاً في كتب التاريخ إلا أنها لا تقل من حيث الفظاعة عما لحق باليونانيين من تهجير ومجازر، لاسيما أن كلا الشعبين يشكلان الأس التاريخي لتركيا الحالية وحضارتها. إلى جانب الكرد، ودفعت مخاوف اليونان من تكرار التجربة الأرمنية في الإبادة بحقهم لتوقيع اتفاق التبادل السكاني عام 1923، مما نتج عنه تهجير أكثر من مليوني يوناني في كل من اسطنبول وازمير، ولم يتبق سوى بضعة عشرات من الألوف.
في الواقع ما لحق بالأرمن واليونانيين والكرد من حيف وتنكيل وتهجير تقودنا إلى كذبة تاريخية تتصل بجوهر العثمانية كدولة وقومية، لأنه بالأساس قائم على إلغاء الآخر. فالسواحل الغربية لتركيا الحالية على المتوسط وبحر إيجة، وفي الشمال على البحر الأسود. كلها يونانية بلا نزاع ولا جدال، والقسم الأوسط والشرقي يتداخل فيه الأرمن مع الكرد، وفي نهايات الحكم العثماني تم القضاء كلياً على العنصرين الأرمني واليوناني. بينما تكفل القوميون الأتراك بقيادة كمال أتاتورك فيما بعد بإبادة الكرد، ولم تزل هذه المعركة الهمجية مستعرة إلى اليوم.
وإذا كانت تركيا اليوم واجهة سياحية للكثيرين، إنما الفضل يعود لما تركته الثقافات والحضارات المتعاقبة والمتجذرة في تلك البلاد، تلك التي جيرها الشوفينون الأتراك لصالح أجنداتهم القومية، بما في ذلك الدين الإسلامي الحنيف. بعدما هجروا أغلب السكان المحليين عبر المجازر الدموية وسياسات التتريك المتعاقبة، ومن يتجول في اسطنبول. على سبيل المثال، يدرك ما قدم من روائع المعماري سنان المولود سنة 1490 بولاية قيصري ذوي الأصول الأرمنية، ومن مفارقات القدر أن براعة سنان لم تشفع له في إنقاذ أهله من التهجير والذبح على يد العثمانيين.
ومن باب المشاكسة قد يسأل أحدهم. لماذا لم يستخدم العثمانيون الأساليب السابقة في تتريك ومحو العرب. بشكلها الفظ والوقح، كما فعلوها من قبل مع الأرمن واليونانيين ويفعلونها اليوم مع الكرد. حقيقة لا تقل فظاعة العثمانيين في التنكيل بالعرب عن غيرها من الفظائع تجاه باقي الشعوب والأمم. يكفي أنهم اقفلوا عليهم الحدود واستنزفوا خيراتهم لقرون، ولكن ما كان يحول دون ارتكاب مجازر دموية صريحة بحق العرب يعود لعدة أسباب، من أهمها متانة وقوة اللغة العربية. ليس فقط لأنها لغة القرآن الكريم ولها قداستها. إنما لأن العثمانيين في واقع الحال لا يملكون إلى الآن سوى الإسلام كواحد من المقومات أو المرتكزات في بناء دولتهم، لذا استخدموا الإسلام كحالة وظيفية. لتحفيز الشعوب والزج بهم في معاركهم، ولولا ادعاء الإسلام لما كان لهم القدرة على حكم شبر واحد من البلاد التي حكموها. لذلك ما أن تفككت الدولة العثمانية بدايات القرن الماضي حتى سارع كمال أتاتورك بعد اتفاقية لوزان واستبدل الأحرف العربية التي كانت تكتب بها اللغة التركية بالأحرف اللاتينية، واعتبرها حالة تطهير لغوي، وصار الإسلام عدوه الأول، وغير دفة توجه تركيا نحو الغرب، ولكن بعد مرور عقود عدة على محاولة أتاتورك يكتشف الأتراك من جديد أنهم من دون الإسلام ضعفاء ولا شرعية لهم ولا مقومات يرتكزون إليها، وهذه واحدة من دوافع محاولات تجديد العثمانية في العالم العربي مرة ثانية. بلبوس إسلامي جهادي، مرة يتنكر تحت عباءة الدعم لفضية فلسطين، ومرة ثانية يتخذ من مناصرة ثورات الربيع العربي مدخلاً للوصول إلى إعادة تدوير العثمانية بكل ما تحملها من أوحال.
بالعودة إلى جوهر مشكلة الذهنية العثمانية. المتجددة، المبنية على روح عدائية توسعية. مستخدمة في ذلك أدواتها وطرقها القديمة، بما في ذلك تجنيد المرتزقة «دُوُل» كما في الحالة الليبية والأذربيجانية، أو التستر خلف الدين ودعم الحركات الراديكالية من قبيل «الإخوان المسلمين»، وفي أكثر من بلد عربي، وضخ المزيد من الاحتقان في توترات بؤر الصراع الحالية بما يتماشى ومصالحها، أو كما قلنا سابقاً عبر تجديد نزاعات قديمة في حوض البحر الأبيض المتوسط، إلا أن الحالة السورية تبقى النموذج الأكثر تكاملاً ووضوحاً بالنسبة لهجمة العثمانيين الجدد تجاه بلدان العالم العربي، تحديداً.
في واقع الحال لا بد من وضع نقطة مرجعية لتجدد العثمانية. نقطة استناد تاريخية تكون مقياساً للحديث عن ظاهرة ظلامية وهمجية تحاول التكرار، ويمكن القول إن صفقة حلب نهاية عام 2016 تعد بمنزلة نقطة البداية لما نحن بصدده، ولا يخفى على أحد دور تركيا المحوري والرئيس في إبرام تلك الصفقة. يتجلى ذلك من خلال ضغط تركيا حينها على الفصائل للانسحاب ومن ثم تسليم حلب الشرقية للنظام وروسيا مقابل تدخلها العسكري المباشر في ريف حلب الشمالي. مناطق الباب وجرابلس وإعزاز وريف إدلب ولاحقاً عفرين ورأس العين، وربما ليست صدفة أن يتزامن ذلك مع مرور مائة عام بالتمام والكمال على اتفاقية سايكس بيكو عام 1916 التي تقاسمت فيها فرنسا وبريطانيا بلاد الشام والعراق. الهلال الخصيب، أي البلاد التي حكمها العثمانيون بقوة البطش، ووجدنا خلال السنوات الثلاث الماضية ولأكثر من مرة إشارات من كبار القادة الأتراك تنبه إلى انتهاء مفعول اتفاقية سايكس، بما في ذلك مقالة للرئيس التركي نشرت في صحيفة لوفيغارو الفرنسية تعود لعام 2018م. ضمن ذات السياق، مع الإيحاء أن البديل عن هذه الاتفاقية العودة لخرائط الحكم العثماني.
في حقيقة الأمر بحثت تركيا ومنذ بدايات الحراك الشعبي السوري عن طريقة لتفريغ هذه المدينة الحيوية. حلب، والتي تشكل حمولتها أكثر من 35 في المائة من مجمل الاقتصاد السوري، وتقاطع المخطط التركي مع النظام السوري فيما يخص الموقف من حلب. النظام على الدوام كان يجد فيها خزاناً «سنياً بشرياً» مسلحاً بقوة اقتصادية صلبة استعصى عليه تفكيكها خلال العقود الأخيرة، وتركيا كانت تجد فيها منافساً تجارياً وصناعياً متيناً للكثير من مدنها الصناعية. ويكفي أن نعرف أن حلب لوحدها كانت تنافس وتغطي ما مقداره انتاج ثلاث مدن تركية صناعية. اسطنبول بورصة أزمير، وتزاحمها على أسواق جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق ودول المشرق العربي. خاصة في مجالات صناعة الألبسة والأحذية، وخلال فترة الحرب السورية لم تتوقف شركات الأدوية في حلب عن تصدير أدوية مهمة للأسواق التركية، رغم كل معيقات الإنتاج، ومن يعود لبدايات حركات التسليح في الشمال السوري خاصة المقربة من تركيا يكتشف أن الاستيلاء على المناطق الصناعية في حلب كانت واحدة من بين أهم أجندات تركيا، ولا يخفى على أحد كيف انفتحت الحدود التركية أمام حركة شحن المعامل والمنشآت الصناعية المستولى عليها. كما في الليرمون والشيخ نجار والعرقوب والراموسة. ساعده في ذلك ضربات طيران ومدفعيات النظام السوري الذي وجد فيها بدوره. فرصته، للتخفيف من ثقل هذه المدينة، وهنا يكمن سر تكامل المخطط التركي مع النظام السوري في إزاحة حلب اقتصادياً وسياسياً من واجهة الصراع.
مما سبق يمكن القول إن فك أحجية حلب تقودنا لرسم الخطوط العريضة لملامح المشروع العثماني الجديد في المنطقة برمتها، وتمهد الطريق لفهم الآلية المعقدة لدخول آلاف الجهاديين من وسط آسيا وأوربا وأفغانستان إلى العمق السوري وتمكنهم خلال أشهر قليلة في الكثير من المناطق. مستفيدين في ذلك من المطارات والتسهيلات التركية، وبذلك تصل مشتركات استخدام هذه الأدوات القذرة من قبل إيران والنظام السوري مع تركيا أوجها. رغم المواقف والاختلافات الظاهرية، وهذا ما يفسر سر التوصل لاتفاقات الأستانة لتقاسم النفوذ على الجغرافيا السورية، وتالياً صرنا أمام تحالف إيراني تركي ظاهره قلق ومتذبذب وجوهره توافقي وصلب.
المعادلة ذاتها التي استخدمتها تركيا مع تنظيم داعش، وبطريقة ما استخدمته مع حزب العمال الكردستاني التركي لزيادة خلخلة الشمال السوري الحيوي والاستراتيجي بالنسبة لها، من جهة فتحت المجال أمام توغل مقاتلي العمال الكردستاني عبر سياسة غض النظر، وهنا أيضاً تتكرر تجربة تقاطعات المخططات التركية مع كل من النظام السوري وإيران فيما يخص هذا التنظيم المسلح، ومن ثم قامت باستثمار هذا الصراع لتبرر تدخلها في المناطق ذات الكثافة الكردية كما في عفرين ورأس العين. تمهيداً لتكرار تجربة لواء اسكندرون في السلخ والاقتطاع المبني على تزييف ديموغرافية تلك المناطق من خلال ضرب المكونات السورية مع بعضها لتحقيق هذه المهمة، وهذا ما زاد من حالة التطاحن المجتمعي على طول الشريط الشمالي السوري وخلق إرث هائل من الأحقاد والضغائن تنذر بمستقبل غامض.
كل ما سبق يترافق مع شيطنة تركيا لأي مشروع وطني سوري محلي أو عربي تحت حجج واهية. من قبيل التطبيع مع إسرائيل أو النظام. مستخدمة في ذلك المعارضة السورية الموجودة في اسطنبول كواحدة من الأدوات السابقة للحيلولة دون تمرير أي حلول لا تتوافق مع مشروع العثمانيين الجدد. لذا نجد أن واحدة من معضلات الحل السوري اليوم تكمن في احتكار تركيا لقرار المعارضة السورية، ولا داع للتذكير أيضاً أن قرار تعطيل عمل الجنة الدستورية وهيئة التفاوض لا يتحملها النظام السوري لوحده، إنما باتت لتركيا مصلحة قصوى لتحريف مسار جنيف للحل السوري خارج أروقة الشرعية الدولية، ونقله إلى الأستانة. لاقتطاع ما تريده من الجغرافيا السورية.
ختامًا. توصيف العثمانية بالجديدة، الذي انتشر مؤخرًا بين المفكرين والسياسيين والمشتغلين بالشأن العام في العالم العربي ربما يحمل وجهًا من الإجحاف بحق مفردة. التجديد والجديد، لما تحمله من معانٍ تنويرية ونهضوية هدفه الارتقاء بالإنسان، الحقيقة يمكن توصيف ذلك بالعثمانية الفاشية. المتعجرفة والمتهورة، تلك التي تنظر للشعوب المختلفة عنها بنظرة فوقية واستعلائية، وتعمل على خلق المزيد من الضغائن والأحقاد البينية بين الدول ومكوناتها، مستخدمة في سبيل تحقيق مآربها شتى الأدوات والأساليب، من تغييرات ديموغرافية وحروب عبثية وتدخلات سافرة. تتعارض كلياً مع مفاهيم حقوق الإنسان والشرعية الدولية ولا تمت لروح العصر بأي صلة.
** **
- عبدو خليل