أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي
يتصدَّر (أبو جهل) نادي قريش «للبولِنج» ليتحدَّث عن الصحيفة التي أزمعوا أن يعلِّقوها على الكعبة في مقاطعة (بني هاشم)، مقترحًا من ضمن بنودها ما يأتي:
- «أن لا نُنْكِح إليهم، ولا نَنْكِحَهُم، حتى يسلِّموا إلينا محمَّدًا»!
من (الحلقة التاسعة) من «مسلسل عُمر بن الخطَّاب»، الذي عُرض في رمضان 1433هـ، على بعض القنوات العربيَّة. وهذا كلام فاحش في حقِّ القوم! فأن يَنْكِحوهم، بل أن يشترطوا عليهم أن لا يفعلوا ذلك بهم، حتى يسلِّموا إليهم ما طلبوا، أمرٌ بالغ الجور والفُحش حقًّا!
- أنتَ فلقتنا بهذه الكلمة! (صاح ابن أبي عنبسة). وماذا كان ينبغي أن يقول أبو جهل؟
- إنما العبارة: «أن لا نَنْكِحَ إليهم ولا نُنْكِحَهُم»، (بضم النون الأُولى)، أي بعربيَّتنا المفهومة اليوم: «أن لا نَتَزَوَّج منهم ولا نُزَوِّجَهم منا». فهمتَ؟
- المشكلة كانت تنحل لو قال: «نزوِّجهم»، ولم يستعمل لغة أبي جهل الأُم.
- لو كان الممثِّل يستذكر «القرآن»، لما وقع في هذا الخطأ! ففيه مثلًا: «قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ...».
- أنَّى لأبي جهل المعاصر أن يقرأ «القرآن»؟!
- إنما هي مسؤوليَّة مسلسلٍ تاريخيٍّ لم يكلِّف القائمون عليه أنفسَهم بمدقِّق لغويٍّ، لتجنيبه أمثال تلك الفواحش من القول. بل إن الأخطاء كانت على كلِّ لسان، بما في ذلك لسان (عُمَر) و(عليّ)!
- أذكرتني بمسلسل آخَر، يتلو الممثل فيه الآية من سورة النور: «وأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ، والصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وإِمَائِكُمْ...»، هكذا: «وانْكِحُوا...»، بهمزة وصل، ولا حول ولا قوَّة إلَّا بالله!
- هذه مجزرة تشمل الجميع: الأيامى، والصالحين من العباد، والإماء! وبمناسبة طرائف المسلسلات التاريخيَّة، طُرفة لُغويَّة أخرى في (موقعة بَدر).
- اللهم كثِّر من المسلسلات اليوم حتى أفتكَّ من انتقادك لابن أبي عنبسة! قل، يا راوينا، ماذا حدث؟
- طرائف المسلسلات التاريخية صارت هنا أكثر تشويقًا من المسلسلات نفسها!
- أجل، أجل، وربِّ الكعبة!
- في موقعة بَدر، يتقدَّم (عُتبة بن ربيعة) لمبارزة (حمزة بن عبد المطلب)، صائحًا، في رضًى عن مقابلي فريقه للمبارزة من المسلمين...
- اِدِّي له!
- «آه، واللات والعُزَّى، إنهم لأَكِفَّاءُ كِرام!»
- وحُقَّ له الرِّضَى، ما دام مبارزوهم من المسلمين «أَكِفَّاء»! استمِر.. أنا تعجبني المسلسلات التاريخية العربيَّة من زمان، بشرط...
- وما ذاك، يا ابن أبي عنبسة، «سَكِلَتْكَ» امرأتُك؟
- أن لا تتحدث عن موضوع الطلاق ومشكلاته.
- لا، اطمئن! خلال حروب الرِّدَّة مع أهل (اليمامة)، صارت قبائل (الرِّباب) تُسَمَّى في المسلسل: الرَّباب، بفتح الراء!
- رَبابَةُ رَبَّةُ البَيتِ ... تَصُبُّ الخَلَّ في الزَّيتِ!
- وإنما هي «الرِّباب»، (بكسر الراء). حِلفٌ قَبَلي، كان يَضمُّ زُمرةً من قبائل معدِّ بن عدنان، من ولد عبد مناة بن أُدِّ بن طابخة، هي: تَيْم، وعَدِيّ، وعُكل، ومُزَيْنَة، حسب كتاب (ابن دريد، الاشتقاق)، وفي كتاب (ابن الكلبي، جمهرة النسب)، وكتاب (ابن حزم، جمهرة أنساب العرب): تَيْم، وعَدِيّ، وعَوْف، والأشيب، وثور. تحالفوا مع بني عمِّهم (ضَبَّة) على (بني تميم)، فسُمُّوا: الرِّباب؛ لأنهم اجتمعوا كاجتماع الرِّبابة، خِرقة تُجعل فيها السِّهام. وقيل لأنهم تحالفوا فغَمَسوا أيديهم في «رُبٍّ»، ومن معانيه: الدِّبْس. والأقرب- كما أرى- أنهم سُمُّوا بذلك لأنهم «رِبابٌ» متحالفة، جمع «رِبَّة»، والرِّبَّة: الجماعة من الناس.
- أفادك الله، وكثَّر مسلسلاتك!
- على أن لذلك المسلسل- على جودة ما جُوِّد فيه- طرائف أخرى، فنيَّة وإخراجيَّة، نامَّة عن غفلة عجيبة.
- مِثل؟
- منها أنَّ (أبا بكر الصديق) ظهر منذ أول يومٍ عجوزًا، يناهز الستين، وظلَّ على ذلك تقريبًا حتى آخر عمره!
- سبحان الله! مع أن الرسول كان أسنَّ منه، وقد بُعِث في الأربعين من عمره!
- صحيح. أمَّا (عليُّ بن أبي طالب)، فظهر طِفلًا دون العاشرة، إبَّان البِعثة ونزول الوحي، لكن ما هي إلَّا بضع سنوات حتى ظهر في شِعب (أبي طالب) شيخًا هِمًّا، قد وَخَطَ الشيبُ شَعره!
- لا حول ولا قوَّة إلَّا بالله! كلُّه من أبي جهل! مع أن عليًّا كان في العشرينيَّات إبَّان الهجرة، وتوفي الرسول وهو شابٌّ، يناهز الثالثة والثلاثين!
- وأخيرًا، نكتشف أن عُمَر بن الخطَّاب- حسب مسلسله، الحلقة23- لا يعرف اسم (أبي عبيدة عامر بن الجراح)، فيُرسل إليه: «إلى: أبي عبيدة ابن عامر بن الجراح»! وهكذا أصبح أبو عبيدة ابنَ نفسه، فهو عامر وابن عامر!
- ذاك لكي يستكمل العرب تخليط تاريخهم بتخليط مسلسلاتهم!
- إِنْ كُنتِ حاوَلتِ الدَّراهِمَ فَانكِحي ... سِماكًا، أَخا الأَنصارِ، أَو ابنَ فَرقَدِ!
- وهنا مربط «الدراهم» بالضبط، بلا تاريخ بلا بطيخ!
** **
(العضو السابق بمجلس الشورى، الأستاذ بجامعة الملك سعود)