«تحدث حتى أراك» هكذا عزا سقراط مزية رؤية الآخر في حديثه، ليس لأجل الحديث في ذاته، بل لأن الحديث مرآة العقل؛ ولذلك قالت العرب:» عقل المرء مخبوء تحت لسانه».
إذن هل العقل هو المزية التي يرانا الآخرون بها؟ وهل مرآته الحديث فقط أم غيره؟
لا شك أن الآخرين يروننا من خلال عقولنا المتمثلة في أحاديثنا، وهذه الأحاديث ليست حكرا على اللغة، بل هي قالب يصب فيه الكلام والأفعال والأفكار، وهذه الأخيرة تمثلنا، ويمثلنا المتحدثون بها، وبالتالي فإن أي خطأ يصدر من متحدث بها يكون إسقاطا علينا، في نظر الآخرين بالطبع. فرؤاهم لنا نسبة واختلافا منوطة بنسبة الجزء الذي نظهره لهم من عقولنا، ومدى عمق المكاشفة.
فبرأيي أن لكل إنسان نقطة مركزية، يراها الجميع فيه مثلما هو يراها في نفسه، وهذه النقطة تكون واضحة عامة، مثل(القوة/ الحياء/ الهدوء/ ضعف الشخصية/ الخبث/ الضعف... وما جرى مجرى ذلك)، لا لبس فيها لأنها منكشفة بمماثلة انكشاف ملامح الوجه، وأما مكاشفة التفاصيل والدقائق لا تتأتى إلا بطبيعة العلاقة وطول الملازمة، ما يكشف عروق الشخصية الدقيقة؛ ولذلك ينكشف الإنسان أمام أحدهم في حين أن الآخر لا يزال لا يستطيع رؤيته بوضوح، وهذا ما يجعل من شخصين يرون إنسانا واحدا باختلاف نسبي؛ تبعا لعمق المكاشفة.
أضف إلى ذلك طبيعة العلاقات التي تتعامل معك بمسمياتها، وبالتالي يراك الآخر من زاويتها، أقصد بذلك أن الشخص الواحد أب وأخ وابن وصديق وموظف وزميل عمل، وكل واحد من هؤلاء ينظر إليه من الجانب الذي يربطه فيه (أبي/ أخي/ ابني/ صديقي...)؛ وهو يختلف من عين لعين تبعا لاختلاف تلك العلاقات، ليس لأن له أكثر من شخصية؛ بل لأن العلاقات تتعاطى معه من حيث طبائعها المختلفة.
أما مسألة أننا أصدقاء لأشخاص في حين أننا أعداء لآخرين، فهذا ليس لأن الفريقين يرون شخصياتنا باختلاف، بل لأن الاختلاف كان في المواقف وطبيعة الظروف التي جمعتنا في كل منهما، فعدوك وصديقك يرون فيك الإنسان ذاته، بيد أن مناط الاختلاف هو في الموقف وتعاطيك مع الموقف، ما يجعل كل منهما يرتبط بك صداقة أو عداء تبعا لتعاطيك مع موقفك معه، هذا سبب؛ والسبب الآخر اختلاف شخصية صديقك وعدوك، فقد تكون شخصية الأول تتركب مع شخصيتك الأمر الذي من شأنه ألّا يولد الاختلاف حين حدوث مشكل ما، في حين أن عدوك لا تتركب شخصيته معك، الأمر الذي يأتي بالاختلاف في حدوث المشكل، الأمر أشبه بقطع تركيب الصور، حيث مدخل مكعب ما يتركب مع مدخل المكعب الآخر، في حين لا يوجد به مدخل لتركيب القطعة الأخرى.
وفي هذه الحياة يقترب أحدهم منك إلى حد المماثلة لك، لكن مهما رأى أحدهم الآخر بعين حقيقية، تبقى ثمة منطقة لا يستطيع أن يصلها، وعدم التطابق سببه أن الناس يرونك من خلالهم لا من خلالك؛ وهذا ما دعاني لأن أمثل هذه الوضعية بما سميته (فرضية الطَعم)؛ ذلك أن طعم الوجبة الواحدة هو طعم واحد، لكن لا تستطيع أن تعرف طعمها من خلال الآخر، ولا هو يستطيع أن يعرف طعمها من خلالك، بالرغم من أن طعم الوجبة واحد، لكن لا يحصل التطابق التام في معرفة طعمها بينكما؛ لأن كل واحد يذوقها من خلاله، وكذلك أنت ترى الآخر من خلالك لا من خلاله، مثلما هو يراك من خلاله لا من خلالك، فتبقى ثمة منطقة لا يصلها غيرك.
الآخر يراك من خلاله، مثلما يذوق الطعم من خلاله، لكن هذا لا يعني أنه يسقط عليك مبادئه؛ لأن الطعم واحد مثلما شخصيتك واحدة في نهاية المطاف، فالآخر حين يقرؤك من خلاله يقرؤك في ضوء تكوينه الذي تكونه بالحياة، من خلال تعاطيه معها وتجاربه فيها؛ ما يجعله يستطيع بذكاء أن يفهمك تبعا لقراءاته السابقة في مواقفه مع الناس وتجاربه، الأمر الذي يستعصي عليك معه أن تضلل الآخر عن جوهر حقيقتك، الأمر أشبه بالخبرات السابقة التي تضاف في سيرنا الذاتية، إنها لا تطلب، بل ولا تشترط أحيانا؛ إلا لأنها إضافة مسبقة على إنتاج المتقدم ودقة مهارته، هذه الدقة تتجلى في رؤيته لك تبعا لخبراته السابقة في الحياة، وما اختلاف الطعم الذي أشرت إليه في (فرضية الطَعم) إلا موازاة للمنطقة الضيقة جدا التي لا يستطيع الآخر ولوجها فيك، ليس عدم رؤيتك فيها، فهذه المنطقة تتجلى فيها روحك، لا عقلك المتمثل في حديثك.
هذه المنطقة التي لا يصلها غيرك هي منطقة الشعور، التي ينطلق منها إدراكك للحياة تبعا لشعورك فيها، والآخر يفهم شعورك من خلالك لكنه يدركه من خلاله، بمماثلة شعورك بجسدك، لا يشعر به إلا أنت، لكن الجميع يرونه (يدركونه) بالكيفية الحقيقية التي يبدو بها؛ فثمة أشخاص تتصنع شخصيات مزيفة، فتظهر نفسها مثقفة، أو رقيقة، أو طيبة القلب، أو عميقة العلم، والناس إن لم يصارحوك بأنهم يعرفون أنك مزيف فهذا لا يعني أن تمثيلك انطلى عليهم؛ فأسباب عدم مصارحتهم لك كثيرة، ربما تكون شخصية لها منصب، أو رئيسهم، وهنا يرتفع تعزيزهم لك، ما يجعلك تظن بأنهم صدقوا ارتداءك لشخصية مزيفة، أو ربما تربطكم حياة اجتماعية؛ أيا ما كانت أسبابهم ففي نهاية المطاف الناس ليسوا أغبياء، ويعرفون جيدا الغث من السمين، والحقيقي من المزيف، ومدعي العلم من العالم، مهما تصاعد ثناؤهم أو هبط، فهم يدركون حقيقتك الجوهرية من الداخل مثلما أنت تدركها.
ويعود السؤال: كيف يراك الآخرون؟ الآخرون يرونك مثل الانكشاف الذي ترى نفسك فيه بوضوح- بغض النظر عن تفاصيل الشخصية الدقيقة التي أشرت إليها-؛ لذلك لا أنبل من الصدق مع النفس الذي يظهر على الإنسان نابعا من الداخل، فالصراعات بين حقائق نفسك وعقلك ونقيض ما تظهره للناس يتجلى بوضوح أمامهم، ما يجعلك شخصية بعيدة كل البعد عن الصورة التي كنت تروم أن تظهرها لهم، في حين لو تصالحت بالصدق مع نفسك وظهرت أمام الناس بصدقك، فلعمري أن هذا ما يتوجك بالقوة التي عبثا حاولت أن تتوج نفسك بها، أو بصفات جيدة غيرها في تزييفك الذي يراه الجميع؛ فالآخرون يرونك مثلما ترى نفسك!
... ... ...
* أهدي هذا المقال إلى أمي؛ إذ طلبتْ مني كتابته.
** **
- سراب الصبيح
sarabalwibari@gmail.com