ليس سهلا أن نقص أو نحكي أو نسرد من نعيش معهم، الذين نعرف معظم تفاصيلهم وطقوسهم الحياتية، أمزجتهم، أفراحهم، أحزانهم، أشجانهم، طموحاتهم، أحلامهم، اهتماماتهم. الذين نلمس يوميا قوتهم، ضعفهم، ونعانق شفافيتهم وهشاشتهم مع كل إشراقة نور أو حزن مفاجئ. فما بالك إذا كان ذلك الشخص هو الحميم وهو القريب من القلب ومن الروح، ذلك الدافئ مع تفاصيلنا اليومية في كل محطاتها، الذي يخاف علينا من أي خدش أو عطب، ذلك الذي يملأ الأمكنة كل الأمكنة مهما ضاقت أو اتسعت. وإن لم تكن فهو يخلقها خلقا بجغرافيتها وتضاريسها ومساحاتها.
إذن من أين أبدأ القول وكيف أنسج والحكاية. هل أحكي واسيني الإنسان الزوج والأب وفقط؟ أم أحكي واسيني المبدع والإنسان؟ أم واسيني المبدع وفقط؟ أم واسيني الصديق بكل ما للكلمة من عمق وقوة؟ تتشابك اللغة وتتعانق الصور وأنا أنسج العلاقة بين كل تلك القامات التي تحتويه ويحتويها. واسيني متعدد وواحد في الوقت نفسه هو الكاتب الإنسان في خلوته وهو الإنسان المبدع مع عائلته ومحيطه ومحبيه لأنه يبدع كل لحظة ويجددها حتى لا تذبل ولا يصيبها الوهن. معنا هو المحب والعاشق والصديق وهو الأب النموذجي الحنون المحاور المناقش، الحاضر في كل لحظة مهما سافر ومهما غاب. مع الحفيدتين علياء وشام هو فراشة من نور تفرد أجنحتها لكل ما يبهج. هما الوحيدتان اللتان يمكنهما أن تسرقاه من خلوته ليتجدد بهما ومعهما. ينافسهما جبريل صاحب السبعة أشهر الذي يمارس عملية الإغواء بضحكته المتفردة وحركاته السريعة لسرقة القبعة والنضارة منتصرا على الجميع.
واسيني مع الكتابة، ليست له طقوس قاسية أو خاصة وخاصة جدا ومحددة، تعوّد أن يتأقلم مع كل الأوضاع ومع كل الظروف ويخلق عالما وجوا للكتابة، سواء بالنسبة للرسائل الجامعية ونحن في جامعة دمشق بعد زواجنا مباشرة أو مع ولادة باسم وريم ونحن لا زلنا طلبة. في كل الأماكن يمكنه أن ينسج له خيمة حميمة مثل المتصوف في خلوته ليغيب قليلا أو كثيرا مع أبطاله وشخصياته. لطفولته وشبابه الدور الكبير في ذلك. الطفل الذي تيتم وعمره خمس سنوات في بلد تحت نير استعمار استيطاني وأب شهيد بعد تعذيب متوحش من طرف المستعمر وأم وجدت نفسها وحيدة في ظروف قاسية مع خمسة أطفال، والسادس في الطريق. أيضا تنقلاتنا من الجزائر إلى سورية إلى فرنسا إلى أمريكا وأماكن أخرى، وكل الأسفار القصيرة أو الطويلة جعلتنا نتعامل بأشكال مختلفة ومتنوعة ومتسامحة مع المكان والزمان والخرائط التي منحتنا وتمنحنا زاوية سخية من زواياها. للغربة أيضا قوانينها التي يجب ترويضها، بعد أن أُجبرنا على مغادرة الجزائر.
لكل رواية طقوسها. لكل رواية موسيقاها حسب هوى الشخصيات وحسب متطلبات الموضوع، لكل رواية فنانوها التشكيليون والنحاتون والسينمائيون والمسرحيون والمغنون والموسيقيون... والقائمة لا تنتهي. لكل رواية ربما رحلتها وسفرها لتحسس الأمكنة والروائح والعطور والألوان، هذا ما كان مثلا مع رواية شرفات بحر الشمال وكتاب الأمير ومي زيادة وغيرها ومن الروايات. في كل مراحل الكتابة واسيني عادي معنا ومع المحيط، يحكي ويحكي مثلما كانت تفعل الجدات الراحلات، حتى نحفظ معه تفاصيل شخصياته وتفاصيل المواضيع ونعيش الموسيقى بدون توقف، لكن مزاجه يبدأ في التحول لما تبدأ المعالجة ما قبل الأخيرة للكتابة، واللمسات الأخيرة الحاسمة في إنجاز العمل، حيث ينام إلا قليلا، ولا يسافر إذا ما اضطر لذلك من أجل الانتهاء من المخطوطة التي بين يديه، ويصبح طفلا مشاغبا حساسا من كل شيء لا يمكنك أن تصنف مزاجه، ليس فرحا وليس حزينا لكنه شارد ومشغول البال مع بعض التوتر. يعاند الوقت ويسابقه ليكون هو المنتصر في النهاية. نكاية في التعب ونكاية في الموت كما يقول بعد الانتهاء من أي منجز إبداعي.
هو بحر الحب وبحر الحنان يوزع على هواه دون ميزان أو حساب بسخاء لا مثيل له، لذلك أجيب دوما عمن يتجرأ ويسأل، ألم تغضبي يوما من هذا الرجل؟؟ يحدث وأن أغضب طبعا وأزعل وهذا شيء طبيعي وصحي في نظري، ولكن بالنسبة لواسيني بطيبته وعفويته والطفل الذي يشاغب دواخله، حتى هفواته وأخطائه إن وُجدت يمكنها أن تُغتفر. كثيرا ما نحكي عن طلابنا، وخاصة بعض طالباتنا اللواتي هن في سن أبنائنا، عن إعجابهن وتعلقهن سواء بصورة الكاتب أو صورة الأستاذ الذي لا يبخل لا بوقته ولا بمخزونه المعرفي ولا بحبه لطلبته، أو صورة الأب ربما الغائب أو المغيب، أو صورة الرجل الحلم المنتظر. تنام غيرتي وحساسيتي لنتواطأ بشكل حبي وجميل حتى نجعل الطالبة تبتعد عن أوهامها دون أن تسقط في عوالم من اليأس، ونكون قد نجحنا في تحقيق رهاننا بأن تكون الطالبة أتمت دراستها وتخرجت، حتى أن بعضهن أصبحن أستاذات بنفس الجامعة وربما بنفس القسم معنا.
كثيرا ما أُواجه بهذا السؤال:، ألا تغارين من المُحبّات والمعجبات؟؟
أجيب: مجنونة هي المرأة التي تغار من مئات النساء!!
وكثيرا ما أُسأل، كيف تتحملين كل ذلك الحضور الطاغي للمرأة عند واسيني؟؟ وهو يقول أحاسيسه ويفصح باستمرار عن حبه للمرأة؟؟
أجيب: تصوروا امرأة تعيش مع رجل لا يحب المرأة، ولم يحب ولا امرأة، ولا تحبه ولا امرأة؟؟ ستكون الحياة جافة ويصيبها القحط بسرعة. الحب بكل تفاصيله وفي كل تفاصيله هو الحياة وبدونه لا حياة. الحب هو الإحساس بالحرية وليس تكريس فكرة الامتلاك.
... ... ...
د. زينب الأعوج - زوجة الروائي واسيني الأعرج
* * *
سيرة الروائي واسيني الأعرج
- ناقد جزائري، وُلد عام 1954م عمل أستاذًا جامعيًا، وحاليًا في جامعة السوربون في فرنسا.
- أحد «الفرانكلونيين» صدرت له العديد من الأعمال وترجمت للغات عالمية.
* أبرز الجوائز:
- رواية الظلام عام 1997 اختيرت ضمن أفضل خمس روايات بفرنسا
- عن أعماله حصل عام 2001 على جائزة الدولة في الجزائر.
- حصل على جائزة الفكر العربي في بيروت.
- أفضل شخصية ثقافية من اتحاد الكتاب الجزائريين.
* من إصداراته:
- طوق الياسمين
- نساء كازنوفا
- سيدة المقام
- الليلة السابعة بعد الألف
- مملكة الفراشة