د.محمد بن عبدالرحمن البشر
في خضم هذه الحياة، يعيش المرء ويجتهد، ويخطئ ويصيب، ويأمل ويبلغ مناه، أو يتعثر ويخيب مبتغاه، لكنه سيعيش ما كتب الله له أن يعيش، ويبقى توفيق الله وعونه، هو الأساس بعد بذل الأسباب، أو ربما دون بذلها، إذا أراد الله ذلك، يقول الشاعر:
إذا لَم يَكُن عَونٌ مِنَ اللَهِ للِفَتى
فَأَكثَرُ ما يَجني عَلَيهِ اجتهادهُ
ويقول ابن زيدون:
ولكم أجدى قعودٌ
ولكم أكدى التماسُ
الإنسان في هذه الدنيا عابر سبيل، يمشي في خطوات كتبت عليه، والكواكب والنجوم تدور في نظام فائق الدقة، وتفنى أجيال ويأتي بعدها من يعمر الأرض، ومن يهدم ما عمِّر، ليعود جيل آخر يعِّمر الأرض بالخير والمحبة، والبناء المادي والإنساني.
مشيناها خطا كتبت علينا
ومن كتبت عليه خطا مشاها
يزرع المرء شجرة الورد ليقطف الزهر، ويجتهد في ذلك اجتهاداً كبيراً، من تهيئة التربة والري والتسميد، والموالات، ثم تترعرع، وتنمو، وعندما يريد أن يقطف الزهرة، يعتري طريقه بعض الشوك، ويحاول تجنبه ما أمكن، لكن لا بد من شوكة تشيكه، أو أكثر من واحدة، وقد يكون ما شاكه غائراً ومؤلماً أو قد يكون طفيفاً، وربما تشيكه شوكة أو أكثر بقدر كبير، فلا يستطيع مواصلة قطف الزهرة، التي عمل الكثير على تجهزيها حتى كبرت، وأينعت، وحان قطافها، فذهبت أدراج الرياح، وذبلت وماتت، او جاء من يقطفها بسهولة ويسر، أو بالقوة.
هكذا هي الحياة في أطوارها وسلوكها، لم تتغير عبر آلاف السنين، وستستمر كذلك حتى يشاء الله، ويغير الإنسان من مفاهيمه العامة بما يتوافق مع مكارم الأخلاق، التي جاء بها الأنبياء والرسل.
أقول هذا وأنا أتذكر مآل شابة رائعة الحسن عاشت في آخر أيام الأندلس، وهي مريمة بنت إبراهيم ين علي العطار، قائد شجاع من بلدة لوشة أو لوخة الأندلسية، حميلة كما هو جمال أهلها، عاشت طفولتها في كنف والدها في عز وجاه ومال، وعندما بلغت سن الخامسة عشرة أصبح والدها قائداً لحرس أبي عبدالله الصغير النصري، آخر ملوك الأندلس وخاتمة عقدها، وتقرباً من والدها للسلطان أبي عبدالله الصغير النصري الغرناطي الأندلسي سعى لتزويجها به، فتمَّ ذلك وهي في ريعان شبابها، وبهائها، تستهوي الناظر، وتمتع الخاطر، فأصبحت في رغد من العيش.
عاشت في قصر السلطان، وحولها الخدم والأعوان، وأنجبت من أبي عبدالله ولداً وبنتاً، لكنها الحياة لا تدوم على حال : يقول الشاعر الأندلسي أبو البقاء الرندي من مدينة رنده، في قصديته المشهوره التي لا يكاد قارئاً للشعر العربي إلا وقد مر بها، وذلك بعد أن أخذت حبات العقد الأندلسي تتساقط في سرعة عجيبة:
لِكُلِّ شَيْءٍ إِذَا مَا تَمَّ نُقْصَانُ
فَلَا يُغَرّ بِطِيبِ العَيْشِ إنْسَانُ
هِيَ الأمور كَمَا شَاهَدْتُهَا دُوَلٌ
مَنْ سَرّهُ زَمَنٌ سَاءتْهُ أزْمَانُ
وهذهِ الدارُ لا تُبْقي على أحدٍ
ولا يدومُ على حالٍ لها شانُ
في لحظة من لحظات تغير الزمان، وتبدل الحال، أحاط الملكان الكاثوليكيان فرناندو وايزابلا، بغرناطة ووبلداتها لوشه لفتحها، وكان أول القتلى والدها القائد الشجاع، ثم تم الاستسلام المعروف، وفقد زوجها الملك، وأخذ القزاة ابنها منها، وأبعدوا جميعاً من ديارهم التي عاشوا بها ثمانمائة عام، فماتت بعد ذلك بأشهر كمداً وحزناً، على فقد الأب والملك والابن.
في قصة أخرى حدثت أواخر الألف الثاني قبل الميلاد، سعى أحد المصريين أن يكون ضمن حراس فرعون مصر، مع أن فرعون حسب رأيي ليس اسماً، ولا لقباً، وإنما وصفاً للطاغية، سعى ذلك الرجل وتم له ما أراد وتحقق مسعاه، وأصبح ضابطاً مرموقاً، لكن شاء الله تعالى، وتقرر أن يرسل ذلك الضابط إلى الشمال في فلسطين للقيام بعمليات إنشائية، وكان الذهاب إلى هناك، من أكثر الأعمال مشقة، يقول ذلك الضابط بعد أن أمضى هناك مدة من الزمن: «أسكن في مدينة الجحيم دون أي إمدادات، وليس هناك أهالي لضرب الطوب، فضلاً عن عدم وجود تبن في المنطقة المحيطة، أما الإمدادات التي أرسلت إلي فقد نفذت، ولم يعد عندي حمير، فقد سرقها اللصوص، وأقضي اليوم بكامله أراقب الطيور، ولكنني ألجأ بين الحين والآخر إلى صيد السمك، وأرسل عيني إلى الطريق الصاعد إلى تجاهي «أي بلدي» وأنا اتحرق شوقاً إلى الوطن، وآخذ قيلولتي تحت الشجر بلا تمر، القوارص تهاجمني في ضوء النهار، والناموس في جهد الظهيرة، وذباب الرمل يقرص ويمص من كل وريد في جسمي، وكلما فتحت جرة مملؤة بنبيذ، تجمع الأهالي كي يحصلوا على كوب منها، فإن مائتي كلب ضخم وثلاثمائة ابن آوي، أي خمسمائة إنسان ينتظروني أمام الباب دائماً عند خروجي، طالما شموا رائحة الخمر عند نزع سدادة الجرة، أما الحرارة هنا فلا تعرف الانخفاض».
ربما أنه أمضى هناك أكثر من ست سنوات، لكنها الدنيا لا تدوم على حال، وفي نهاية المطاف تزول بحلوها ومرها، ويلقى كل فرد ما فعل.