أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال الله سبحانه وتعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ}؛ ولم يقل: (منها)؛ إشعاراً بأن شربها بالعين نفسها خالصة؛ لا بغيرها؛ فضمن (يشرب) معنى (يروى)؛ فعدّى بالباء [ذات الواحدة من فوق]؛ وهذا ألطف مأخذ، وأحسن معنى من إذ يجعل الباء بمعنى من؛ ولكن (يشرب) الفعل [هو] معنى فعل آخر؛ فيتعدى تعديته؛ وهذه طريقة الحذاق من النحاة؛ وهي طريقة (سيبويه) وأئمة أصحابه.. وقال في الأبرار: {يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} [سورة الإنسان/5]؛ لأن شرب المقربين لما كان أكمل استعير له البا الدالة على شرب الري؛ ودلالة القرآن ألطف وأبلغ من أن يحيط بها البشر.. وقال ربنا سبحانه تعالى في سورة المطففين: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ..} إلى قوله: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} فهؤلاء الظالمون أصحاب الشمال.. ثم قال: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} [سورة المطففين/18-19]؛ فهؤلاء الأبرار المقتصدون.. وأخبر أن المقربين يشهدون كتابهم.. أي يكتب بحضرتهم ومشهدهم لا يغيبون عنه؛ اعتناء بهم، وإظهاراً لكرامتهم ومنزلتهم عند ربهم.. ثم ذكر سبحانه نعيم الأبرار، ومجالستهم، ونظرهم إلى ربهم، وظهور نضرة النعيم في وجوههم.. ثم ذكر شرابهم؛ فقال: {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [سورة المطففين/25-26، ثم قال: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [سورة المطففين/27 - 28].. والتسنيم أعلى أشربة الجنة؛ فأخبر سبحانه أن مزاج شراب الأبرار من التسنيم، وأن المقربين يشربون منه بلا مزاج؛ ولهذا قال: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} كما قال تعالى في سورة الإنسان سواء.. قال ابن عباس [رضي الله عنهم]، وغيره: يشرب بها المقربون صرفاً، ويمزج لأصحاب اليمين مزجاً؛ وهذا لأن الجزاء وفق العمل؛ فكما خلصت أعمال المقربين كلها لله: خلص شرابهم، وكما مزج الأبرار الطاعات بالمباحات: مزج لهم شرابهم؛فمن أخلص أخلص شرابه، ومن مزج مزج شرابه.. قالوا: فهكذا هذه الآيات التي في سورة الملائكة: ذكر فيها الأقسام الثلاثة: الظالم لنفسه؛ وهو من أصحاب الشمال، وذكر المقتصد وهو من أصحاب اليمين، وذكر السابقين وهم المقربون.. انظر: كتاب (طريق الهجرتين) ص244-247.
قال أبو عبدالرحمن: ترد خلال هذه الحلقة أو بعيدها جرأةٌ مني في مناقشة أحد أئمة المسلمين، أو عدد منهم؛ ولا أتحرج منها؛ لأن الله سبحانه وتعالى جبلني على عقل شديد التحري والتدقيق والتحقيق، ولم يجعلني إمعة منذ تجاوزت ميعة الصبا فويق خمسة وعشرين عاماً إلى ثلاثين عاماً؛ وخلال ذلك دربت عقلي على التفرغ للقراءة لا هم لي غير ذلك؛ وحذقت (نظرية المعرفة والعلم)؛ ومنحني ربي اللجوء إليه بابتهالاتي بأن لا يجعل الله في قلبي غلا على مؤمن، وبأن يؤتي نفسي تقواها، وبأن يزكيها وهو خير من زكاها.. إلخ.. ومن لطف الله بي: أنني منذ كان عمري عشرين عاماً أو فويق ذلك: هداني إلى محاولة التهام ما وصل إلى يدي من معارف إمام حبر ممسوح الغرَّة؛ وهو الإمام أبو محمد ابن حزم رحمه الله تعالى، ورضي الله عنه، وقدس روحه، ونور ضريحه؛ وتلقيت علمه في صلف الشباب بالتعصب له؛ فكدت أعتقد له العصمة؛ فلما هضمت جدله واحتجاجه وتأصيله وتفريعه: اعتدل عندي الميزان؛ فكنت أتناول أحكامه الشرعية والدنيوية كالنواحي الجمالية والنفسية.. إلخ بالتحقيق والتدقيق، وأدعو له، وأعترف بإمامته وفضله وإن خالفته في بعض الأمور، وإن قسوت عليه أيضاً في أحكام كان سهوه عن حكمها الصحيح شنيعاً جداً؛ ولذلك حديث ممتعٌ مخلق منصفٌ في كتبي.
قال أبو عبدالرحمن: بعض أقوال النقاد رحمةٌ والتاريخ علمٌ يتجدد، والشعر حكمةٌ؛ وخير البدء بالحكمة؛ فإنها أم التصرف المشكور؛ لأنها تقضي على كل تصرف أرعن؛ والنقد ربط (أرسطو) المعرفة التاريخية بمظاهر الذاكرة المتعددة؛ ورأى أن التعرف التاريخي يخلي مكانه للشعر؛ وهو [أي الشعر] أقرب إليه منه إلى العلم؛ وأما (فرانسيس بيكون) الذي يخالف (أرسطو): فقد جعل التعرف التاريخي خارج العلم وتفسيره؛ على أنه نوعٌ من الفن، وأنه نظام سياسيٌ أخلاقي مساعدٌ لا يثير أي اعتراض.. قال (راكيتوف): وقد ظل هذا التفسير سارياً مدة طويلة من الزمن؛ وفي القرن التاسع عشر فقط: حققت مسألة إمكانية العلم التاريخي، وظهرت حلولٌ جديدةٌ.. انظر (المعرفة التاريخية) ص(110) لـ(أناتولي راكيتوف)؛ وهو كاتبٌ ماركسي.
قال أبو عبدالرحمن: (ناتولي راكيتوف) اختصاصي سوفييتي بارز في نظرية المعرفة والفلسفة والطرائقية ومنطق العلم.. أصدر عدداً من المؤلفات: منها (تشريح المعرفة العلمية) 1969 ميلاديا، و(مجموعة محاضرات في منطق العلم) 1971ميلاديا، و(مبادئ التفكير العلمي) 1975 ميلاديا، و(القضايا الفلسفية في العلم) 1977 ميلاديا، وقد ترجمت بعض مؤلفاته إلى لغات أجنبية؛ وهو رئيس قسم العلم الفلسفي في قسم الإعلام العلمي للعلوم الاجتماعية في أكاديمية العلوم السوفييتية، ورئيس تحرير مجلة (الفلسفة وعلم الاجتماع)، ومجلة (العلم الفلسفي في الاتحاد السوفييتي)، وغيرها.
قال أبو عبدالرحمن: العلم المتجدد هو مفتاح التاريخ؛ والتاريخ وقائع منها السياسي والحضاري والعلمي والأدبي؛ فهو موضوع لكل المعارف البشرية.. وبعد ذلك فالتاريخ ذو أصول ومنطق؛ فهو حقل علمي قائم بنفسه؛ والزعم بأن التاريخ أقرب إلى الشعر بمقابل العلم: إنما يكون عندما يكون هم المؤرخ والقارئ المسامرة بكل نادرة بدون اعتناء بالنقد والتحليل والتفسير والاستنباط والتأصيل.
قال أبو عبدالرحمن: تقديس العقول والمطلق، وتحميلها فوق ما في وسعها في الإدراك، والخبال في النفس؛ وهو من استحواذ الشيطان بدعوى الذوق والكشف، وسهولة الإيمان بالمنامات، والحكايات، والأحاديث الموضوعة، وأسر الإلف والعادة والبيئة، وتصدر من لا يخافون الله بدعاوى الولاية وكشف الحجب والأبدال والأغواث والكرامات التي هي أحوالٌ شيطانيةٌ، أو إنسية كالتساكر بالأفيون، وتوليد الأحاديث الموضوعة، والأخبار المصنوعة؛ من أجل الجاه، وأكل الخبز الخبيث، والبعد عن صريح القرآن الكريم، وصحيح السنة المطهرة بالتأويل المدحوض بدلالتي التصحيح والترجيح، واختراق المسلمين بالمتأسلمين تقية وهم ملاحدةٌ حاقدون على الأمة ودينها من الإمبراطوريات الوثنية ثأراً لملكها الزائل، وباطلها الزاهق؛ وكل كيد أهل الكتاب، ومخالفة وصية الله بالاعتصام بشرعه، وعدم التفرق، وغلبة الأهواء والشهوات والشبهات، وحب الزعامة في المناصب الدينية، والحمية للإلف، وتقليد المناصب وما عليه الإرث: كل ذلك جعل أمتنا أحزاباً وشيعاً متناحرة؛ حتى أصبح أهل الحق طائفة واحدة لا يضرها من خذلها إلى يوم القيامة.. ومن الظواهر المؤلمة أن ترك الناس تحقيق مسائل العقيدة عند من جعلوهم أئمة لهم من أتباع السلف أهل الحديث في الفقه وأصول الفقه كمالك والشافعي وسفيان بن عيينة ومن يحكي خلافهم وإجماعهم أمثال: ابن المنذر، والمجتهدين المتأخرين كابن جرير وابن عبدالبر رحمهم الله تعالى.
قال أبو عبدالرحمن: أما الذين اخترقوا المسلمين بالمأسلمين فقد، جعلوا لهم أئمة في التوحيد دينهم توليد الأفكار، وجعلوا لهم شيوخاً في طرق الرقص الصوفي؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله، وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.
** **
كتبه لكم: أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري - (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) -عفا الله عني، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -