خالد بن حمد المالك
يحكم لبنان ثلاثة رؤساء: رئيس للجمهورية يكون من الفئة المسيحية، ورئيس مسلم من المذهب الشيعي لرئاسة مجلس النواب، فيما يتولى رئاسة مجلس الوزراء مسلم سني، وهذا حسب الدستور الذي ارتضاه اللبنانيون ضمن توجههم نحو التعايش بأمن وسلام، والتمتع بحقوق متساوية في بلد يضم خليطاً من الديانات والمذاهب.
* * *
وخلاف ذلك ففي لبنان أحزاب مؤثِّرة تتحكم بالبلاد، وتضعف دور الرؤساء الثلاثة، والمؤسسات التشريعية في البلاد، بعضها يمثِّل ذراعاً لقوى خارجية كما هو حال حزب الله وحركة أمل، وبعضها يمثِّل مصالحه وأجندته الخاصة كما هو الحزب الوطني الحر برئاسة صهر الرئيس اللبناني جبران باسيل، وفي لبنان أحزاب أخرى كثيرة تتفاوت توجهاتها بين الانتماء الوطني والتعاون مع قوى خارجية، وبعض هذا التعاون يثير الشبهات، وهناك أحزاب استثنائية يهمها مصالح لبنان واللبنانيين.
* * *
وفي التركيبة اللبنانية، حيث مجلس النواب، ومجلس الوزراء ورئاسة الدولة، يثار دائماً اللغط حول أهلية من يديرون سياسة البلاد في المجلسين، بل إن رئيس الجمهورية لا تخلو مواقفه أحياناً من اتهامه بإهدار مصالح البلاد، وفقاً لرؤية قاصرة تكون حاضرة مع ولاءات داخلية وخارجية لا تخدم لبنان، كما هو الحال الآن في مواقف الرئيس عون، حيث لا يخرج عن مشورة وتوجهات حزب الله والحزب الوطني الحر وحركة أمل، وبالتالي مع إيران.
* * *
ما أثارني لكتابة هذه السطور، ما نصت عليه المبادرة الفرنسية من بنود لإصلاح ما أفسده النافذون في لبنان للحيلولة دون أن يتم تشكيل الحكومة من وزراء اختصاصيين، حتى يكون هذا الإصلاح دافعاً لقبول الدول المانحة مساعدة لبنان وفق مساعي الرئيس الفرنسي ماكرون، وبما يمكّن الوزارة ذات الوزراء الاختصاصيين من إجراء عمليات إصلاحية حقيقية تمس الاقتصاد تحديداً وتعالج الوضع المالي المتردي، وبالتالي تسمح للصندوق الدولي أيضاً بإقراض هذا البلد المنكوب ليتجاوز أزمته.
* * *
الغريب المعيب أن رئيس الحزب الوطني الحر جبران باسيل - وهو حزب الرئيس عون - يتعمد إفشال قيام أي حكومة تعتمد على أسماء من اختصاصيين، ويعترض على تشكيلها ما لم يكن للأحزاب نفوذ أو سلطة عليها، بدليل مطالبته بأن يكون رئيس الوزراء من الاختصاصيين أيضاً من باب التعجيز، لكنه لا يرى بأساً في أن يكون رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ليسا من الاختصاصيين، بحكم أنهما ضمن دائرة التكتل المكون من حزب الله وحركة أمل والحزب الوطني الحر برئاسة نبيه بري ونصر الله وباسيل نفسه الداعمين لرئيس الجمهورية.
* * *
نحن نرى أن مطالبة حزب رئيس الجمهورية برئاسة جبران باسيل بأن يكون رئيس مجلس الوزراء (السني) من الاختصاصيين، هي محاولة لعرقلة تشكيل وزارة بالمواصفات التي طرحها الرئيس الفرنسي وارتضاها اللبنانيون، وإن لم يلتزم بعضهم بها عندما جاء دور التنفيذ، لأن طرح جبران باسيل لهذا التصور الغريب العجيب، سيدفع بالفرقاء الآخرين إلى المطالبة بأن يكون رئيس الجمهورية من الاختصاصيين أيضاً، ومثله كذلك رئيس مجلس النواب، وحينئذ سيكون لبنان بلا رؤساء، وبلا هوية، وسوف يتجه نحو المجهول بأكثر مما هو عليه الآن، أو يتجه إلى حيث يقول رئيس الجمهورية الرئيس عون (بعظمة لسانه) بأن لبنان يتجه نحو الجحيم قبل دعوة جبران باسيل بأن يكون رئيس الوزراء من الاختصاصيين!
* * *
ولبنان منذ تولى ميشيل عون رئاسة البلاد، وهو يسير من سيئ إلى أسوأ، وبالعودة إلى تاريخ الرجل فهو أحد جنرالات الحرب الأهلية، وهو من شكّل وزارة من العسكريين برئاسته آنذاك لتكون موازية للوزارة المدنية مخالفًا بذلك الدستور، وهو من تبنى من منفاه في باريس تشكيل الحزب الوطني الحر ليكون ضد أي عمليات إصلاحية ما لم تؤد إلى مصالح ومنافع تصب في مصلحته ومؤيديه، بدليل وصوله إلى قصر بعبدا، بعد تعطيل اختيار أي مرشح غيره لرئاسة لبنان لفترة طويلة، قافزاً على الخيارات الأخرى الأكثر قدرة على إدارة البلاد.
* * *
اليوم تبدأ المشاورات وتسمية رئيس الوزراء القادم، بعد أن أخَّرها الرئيس عون مخالفاً بذلك ما ينص عليه الدستور أسبوعاً كاملاً، دون النظر لاعتراضات بعض الأحزاب والقوى الفاعلة، معتمداً على أنصاره في دعم مواقفه التي لا تصب في مصلحة الشعب اللبناني الشقيق، فلننتظر ماذا تخبئ الأيام القادمة وسط اهتمام عالمي بالوضع الصعب الذي يمر به لبنان المفلس الذي يوشك على الانهيار.
* * *
وفي كلمة للرئيس عون وجهها أمس إلى اللبنانيين قبل تسميته رئيس الحكومة وبدء المشاورات، وواجه بها أعضاء مجلس النواب بحكم أنهم ممثلو الشعب، هاجم كل شيء، واتهم كل أحد، ووزع اتهاماته على الجميع، ودافع عن نفسه كما لو أنه ليس على رأس الشركاء في إفشال الإصلاحات، وكما لو أنه ليس مسؤولاً عن الوضع المتردي الذي وصل إليه لبنان في عهد رئاسته.
* * *
أشار في كلمته إلى الفساد، وتحدث عن همومه وخوفه على مستقبل لبنان، وكأنه يشير إلى عجزه وعدم قدرته على ما آل إليه الوضع خلال رئاسته وإن لم يكن يقصد ذلك، وكان حديثه في العموميات، ولم يمتلك الشجاعة لتسمية الأسماء بأسمائها، متجنباً -كما فعل من قبل - الإشارة إلى الفاعلين في حريق مرفأ بيروت، وحين أشار إلى الفساد، وأنه ما زال مستشرياً وبامتياز، لم يقل -وهو رئيس الدولة - من المسؤول، وما دوره كرئيس في ذلك.
* * *
يقول في كلمته -التي حاول فيها أن يكسب تعاطف اللبنانيين ولم ينجح- إنه يعيش وجع الناس، وأنه يتفهَّم نقمة اللبنانيين، لكنه لم يوضح ماذا فعل خلال السنوات التي مضت من رئاسته، لمعالجة وجع الناس ونقمتهم غير الانخراط في مستنقع التحالفات، ضارباً عرض الحائط بأن موقعه في قصر بعبدا يجعله رئيساً لكل اللبنانيين كما هو مفترض.
* * *
وفي خطابه حاول بشكل غير مباشر أن يقنع اللبنانيين بأن هناك مشكلة في اختيار رئيس الوزراء، وأن هذه المشكلة من مسؤولية أعضاء مجلس النواب، وبالتالي عليه تحمّل مسؤوليته في اختيار الرئيس القادم، متنصِّلاً عن دوره كرئيس، ومثيراً زوبعة لا تصب في مصلحة لبنان قبل صدور التكليف لرئيس الوزراء القادم، والأهم ماذا سيكون موقفه لاحقاً متى ما تم اختيار الوزراء من الاختصاصين كما تنص عليه المبادرة الفرنسية، وآلية الاختيار من خارج الأحزاب.
* * *
كنت أنتظر في نهاية كلمة الرئيس عون إلى اللبنانيين أن يعلن عجزه في إدارة البلاد، ومن أن قدراته الصحية لا تساعده ولا تسمح له بمعالجة هذه المشاكل التي تعيق أي إصلاح للأزمات التي يمر بها لبنان، ليكون ذلك بداية لمسيرة إصلاحية حقيقية لهذا البلد المنكوب، فإذا به يصر على الاستمرار رئيساً للبنان، ولا يقدم على تقديم استقالته، ودون أن تكون لديه القدرة الدبلوماسية لخلق جسر من التفاهم بين اللبنانيين، بما يخدم الشعب، ويزيل هذا الكابوس من الأزمات التي تتكرر.
* * *
اللبنانيون يعرفون أكثر مني كل من يحاول إجهاض مصالحهم التي يخطِّط لها المتآمرون على مصالح لبنان واللبنانيين، ويعرفون أيضاً حقيقة الدول - أو الدولة- التي ساعدت لبنان مالياً واقتصادياً على مدى عقود من الزمن، بما جعله يفيق بعد اتفاقية الطائف، لولا أن المتآمرين من أهله أرادوا له غير ذلك، متناسين كل بادرة وكل دعم وكل مساندة كانت ضمن محاولات من هذه الدول وعلى رأسها المملكة لإنقاذ لبنان مما هو فيه، ولكن!.