فهد عبدالله العجلان
ظل المفهوم العاطفي للتوزيع العادل للثروة مرتبطًا بأطروحات شيوعية يسارية، تسعى لتدمير بناء هياكل الدولة لبناء حصن الثورة الشعبية الفوضوية من رحم معاناة الفقراء, وانحصر الوعي بهذا المفهوم في تضخيم حالة الظلم الاجتماعي وتبسيط الحلول بتقديم مقاربات ساذجة اكتظت بها -وللأسف- حتى كتب التعليم الأكاديمي التي تسرَّبت إلى العالم العربي في مناقشات الاقتصاد الاجتماعي التنموية، تجلَّت تلك الأطروحات في رؤى حالمة من قبيل قسمة ثروة العالم على عدد سكانه كحلّ لاختلالات عدالة التوزيع، وقد شكَّل هذا الوعي النواة لفئات غاضبة حانقة لا ترضيها أي مقاربة لحل هذه المعضلة دون الثراء وجملة حل الإشكالات المالية المرتبطة بكل فرد بعيداً عن المنطق والعقلانية، وقد شهدنا إعادة إنتاج هذا الخطاب في العالم العربي، خلال ما يُسمى ثورات الربيع العربي بشكل دمَّر مكتسبات واقتصادات تلك الدول، وقد ندمت الشعوب على ما آلت إليه نتائجها، لكن المفهوم المنطقي المنسجم مع الفطرة والأديان والواقع يقارب مفهوم توزيع الثروة بارتباطه بفروقات العمل والإنتاج والمساهمة الفعلية في الاقتصاد، وهذا بالطبع لا يعني الاستسلام لواقع وشروط منافسة غير عادلة لا تسمح بتكافؤ الفرص والقبول بتفاصيل وجه اقتصاد سوق عابس، وإنما لا بد من معالجة جراح غير القادرين على المنافسة لأسباب إنسانية أو طارئة خارج حسابات السوق من خلال برامج الحماية الاجتماعية التي تحقق الأمان الاقتصادي.
نظام الحماية الاجتماعية يعد أهم أساسيات حقوق الإنسان المرتبطة بحزمة الحقوق الاقتصادية والصحية والتعليمية، بل بسلّة الحق في التنمية، وهو في نظري يمثِّل الحصن الأخير لحماية كل هذه الحقوق لمن يتعرضون لانتكاسات تنتج عن القرارات المتصلة بالإصلاحات الاقتصادية، حتى وإن كان لا بد منها، وتمثِّل النقاشات المستمرة في هذا السياق أهم مراجعات الأهداف الأممية للتنمية المستدامة 2030 وأحد أهم مكتسباتها، وتمثِّل اليوم مسؤولية جميع دول العالم لتجسير الفجوة التي حقق العالم فيها تقدماً جيداً رغم استمرار التحديات، وخصوصاً للفئات التي تقع خارج رعاية الآليات الفاعلة في الاقتصاد، ويمكن مقاربتهم بمن يوصفون في أدبيات حقوق الإنسان (those left behind)، وهذه البرامج والمبادرات تستهدف أولئك الذين يتعرَّضون لانسداد أفق الحماية الاجتماعية نتيجة ظروف دائمة أو أزمات طارئة مثل تلك التي أفرزتها جائحة كورونا -مؤخراً-, ولعل بروز هذا الطرح في الشأن المحلي يستمد أولويته من أهمية استقرار الدخل بما يحقق الكفاف للمواطنين، في ظل نظام ضريبي جديد يتشكَّل في الاقتصاد بشكل مختلف عن المعتاد في الحسابات الاقتصادية للمواطنين، ويستهدف إعادة بناء نظام حماية جديد يحقق العدالة.
في سياق الوعي بالسياسات الاجتماعية، كان طرح الفيلسوف إميل دوركايم المستهدف لاستقرار الحياة بتكامل الطبقات الاجتماعية والتنظيم الذي يسيطر على علاقاتها، وقد جاء مناقضاً لأطروحات كارل ماركس الذي يرى الفوضى والاضطراب باباً للمعالجة الاجتماعية، ولذا ركَّز الفيلسوف الذي يعتبر الأب الروحي لعلم الاجتماع الغربي على التضامن الاجتماعي المرتبط بالتركيبة الاجتماعية كأساس لمعالجة ما أحدثته الثورة الصناعية من نقاش وطرح فلسفي جديد، ساهم في تطور سياسات الحماية الاجتماعية، وفق آليات جديدة فرضتها مؤسسات التحوّل الصناعي في نهاية القرن التاسع عشر، وتمحورت حول حماية العمالة وتحسين شروط العمل من تأثيرات بنية الثورة الصناعية على سوق العمل تحديدًا.
من الحقائق التي لا بد من طرحها في نقاش هذا الموضوع في سياقه التاريخي المحلي، التأكيد أن المملكة رغم عدم وجود برنامج وطني متكامل ومستدام تحت مظلة تخطيط وأداء ومراجعة واحدة، إلا أنها تبنت وطرحت منذ تأسيسها مبادرات وبرامج متنوِّعة، شملت العديد من الجوانب، كان الملمح الأبرز فيها هو ما وضع عليه مبضع الجراح سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان يده، حين أكد أن كثيرًا من الدعم يذهب إلى غير مستحقيه، فالمملكة منذ بداياتها وربما بحكم السياق الأبوي المرتبط بالاقتصاد الريعي، أصبحت هي الحاضن لجميع المواطنين دون استثناء، وليس فقط المرتبطين بأحوال وأوضاع خاصة تتطلب الرعاية الاجتماعية، لذا كان الدعم شاملاً للجميع.
اليوم وفي مرحلة تعزيز وتطوير مسيرة البناء الجديدة، تسعى المملكة لتصحيح مسار هذه العلاقة وإعادة تشكيلها لتتوجه بشكل فاعل للفئات التي تستحق أولوية هذه الرعاية دون غيرها.
من الصعب فصل التأثيرات الاجتماعية عن الاقتصادية في مسار التحول لأي بلد، فالتحول الاجتماعي المرتبط في هذه المرحلة بتشريعات جديدة تعيد صياغة العلاقة والمسؤولية الاجتماعية داخل الأسرة كوحدة مكونة للمجتمع، تستهدف صياغة علاقة الإنسان بالتنمية بدءًا من الطفل الذي لا بد أن ينشأ وفق حماية قانونية وسياسات اجتماعية، تجعله قادرًا على القيام بمسؤولياته حين يشب ويساهم في المشاركة الفاعلة في الاقتصاد، وليس انتهاءً بالمرأة التي تمت إعادة صياغة علاقتها داخل الأسرة لتتجاوز دائرة الوصاية الضيِّقة التي كانت تحيد الدولة في علاقتها مع أفراد المجتمع، وتحد من المساهمة الفاعلة للمرأة في مشروع التنمية بناءً على إمكاناتها، والمساهمة في بناء الهياكل الاجتماعية والاقتصادية القادرة على تحقيق أهداف التنمية من خلال أدوار تستند إلى حماية القانون، لكن القانون الاجتماعي يظل قاصرًا دون مواكبة آثار التغيير الاجتماعي التي ما لم ترفدها سياسات اجتماعية قادرة على احتواء هذه الآثار، فإنها قد تتسبب في صراعات وانفجارات اجتماعية على المدى المتوسط والبعيد، قد لا يكون وميض جمرها واضحاً تحت الرماد لمخططي تلك السياسات.
المملكة العربية السعودية ومن خلال الرؤية التنموية الجديدة التي أطلقها سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، تدرك عمق هذه التحديات وضرورة مواجهتها بتأسيس شبكة أمان اجتماعية صلبة ومتكاملة، لذا جاء توجيه خادم الحرمين الشريفين الذي كشف عنه وزير المالية الأستاذ محمد الجدعان بتشكيل لجنة من وزارات الاقتصاد والتخطيط والموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، لتعمل على إعادة هيكلة منظومة الحماية الاجتماعية بشكل كامل، وليس لدي شك أن هذه اللجنة قد قطعت شوطًا كبيرًا في صياغة آليات وحلول مستدامة قابلة للمراجعة والتطوير، وفق مستجدات التحول التي تسير بإنجازات واضحة وملموسة.
ولعلي من خلال هذا المقال أن أطرح بعض الأفكار، وخصوصًا أن المرحلة المقبلة بتخصيص 12 قطاعًا ستفرز بعض التحديات الجديدة.
أتمنى على اللجنة الموقرة أن تنظر في أهمية تأسيس مركز دراسات متخصص لبرنامج الحماية الاجتماعية يشخّص الواقع بشكل معمَّق، يملك القدرة على جمع وتحليل البيانات المحدثة وتحليل الآثار الاجتماعية والانعكاسات الاقتصادية لمختلف القرارات، وكذلك الاستشراف بطبيعة التحديات وصياغة الحلول والمبادرات الاستباقية لمحاصرة الآثار الاقتصادية والاجتماعية المحتملة على جميع فئات المواطنين، وخصوصاً المرتبطين بتحولات سوق العمل، ولن يكون هذا المركز فاعلاً في نظري إلا إذا كانت له مرجعية مستقلة عن الوزارات، تمكنها من التخطيط والإشراف على جميع الموارد المالية الموجهة لبرامج الحماية والدعم بشكل يحقق لها القدرة على تراكم المعرفة في هذا المجال، واستقصاء كل ما تقدّمه الجهات الحكومية والقطاع الخاص من خلال برامج المسؤولية الاجتماعية وكذلك الجمعيات الخيرية وغيرها، وتوحيد ذلك من خلال قناة ومرجعية واحدة، والاستفادة -أيضاً- من تطور القطاع الثالث غير الربحي الذي تعوّل عليه رؤية 2030 كثيراً، وليت كل ذلك يكون تحت مظلة كيان جديد، أقترح تسميته «البرنامج الوطني للحماية الاجتماعية»، والذي أتمنى أن يملك شخصية اعتبارية مستقلة عن جميع الوزارات والجهات الحكومية، لأنه في نظري الحصن الأخير في حماية وتحقيق هذا الهدف الحيوي المهم!