د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
الحياة إيقاعٌ لاهث لا مكان فيه لتمهلٍ ولا لمتمهل، والاختيار للتعجل والمتعجل إذا لم تلقَ التؤدةُ موقعًا، والأمر منفصلٌ عن التهافت على الفتات فذاك شأنٌ يعتني به ذوو المال والأعمال، وربما امتدَّ بين ذوي الأملاك إلى ترقب رحيل مورثيهم، ونقل إليه أحدُهم حوارًا بين ابني ثريين جعلا يقتسمان حصتيهما في مال والدَيهما إذا رحلا، ولمن الرقمُ الأكبرُ بينهما، ولله في ملكوته من البشر من لا يعنيهم الشِّعر فيستهويهم الشعير.
** هل يسجل هذا انتصارًا للمتعجلين؟ بالتأكيد: لا، ولكنهم فئامٌ ظنوا الحياة مادةً فاحتكموا إليها وفق معاييرهم، ويقابلهم مستبقو الخيرات، وشتان بين مُشرّقٍ ومُغربٍ، والشنفرى «الجاهلي» عدَّ المتعجلَ «أجشع القوم»، وتوسط المخضرم «عُمير بن شُييم القُطاميُّ» - بضم القاف وفتحها - بين الفريقين؛ فلم يسلب المتأنيَ إدراكَ حاجته، ولم ينفِ الزللَ عن المتعجل، لكنه أردف:
وربما فات قومًا بعضُ أمرِهمُ
من التأني، وكان الحزمُ لو عجلوا
** بدا لنا اليوم نمطٌ آخرُ من التعجل متصلٌ بتناقل المعلومات دون توثيقٍ أو تدقيقٍ، وأحيانًا من منقولٍ دون قائلٍ ومقُول، والمفارقة أن هؤلاء لا يُتهمون بالكذب ولا يُنسب إليهم تكاذب، وحقهم أن يقعوا في مدار الأثر: «كفى بالمرء كذبًا أن يُحدِّثَ بكل ما سمع»، وربما طال هذا التناولُ ذممًا مرعيةً ونفوسًا غائبةً أو غافيةً وعقولًا لا طاقة لها بلجاجٍ ولا حتى حِجاج، مدّخرين حقوقهم ليومٍ بعيدٍ قريب، وليس هذا انتصارًا للتأني بل هو وقاية من التجني.
** أما عوالمُ الإعلام والثقافة فملأى بما هو أسوأُ؛ فالسبقُ والإثارةُ جناحا ظلمٍ وإظلام، ولا يكاد يسلمُ من آثامهما مَن حلَّق بهما أو بأحدِهما، وإن توهم وصولًا فقد ضلَّ الدرب، وقد لا يكفيه اعتذارٌ واستغفار إذ «قد قِيل ما قيل إن صدقًا وإن كذبًا».
** لعلنا بحاجة إلى دروسٍ في سلوكيات النقل والتناقل، وليس أكثر أثرًا في النفوس من ارتباط ذلك بالمنهج الشرعيِّ؛ فوصايا الفلاسفة والحكماء والشعراء مقصورة على مريديهم، لكن الحِلَّ والحُرمة ملازمةٌ في الحياة وبعد الممات، وتأثيرها ممتدٌ حتى لمنكريها الذين قد تستيقظ ضمائرُهم متأخرًا، وسبق لصاحبكم أن كتب عن دور التعاليم المتزنة المتوازنة في تنشئة جيلٍ معرفيٍ واعٍ قادرٍ على التفاعل مع البذور بالاستقاء من الجذور، وعبَّر عنها بنظريته في «التربة والتربية».
** وثمة جانبٌ موازٍ في السعي لتقليل هذه الظاهرة بعدم التسامح مع المتعجلين غير المتثبتين وغير المعتذرين إرجاءً إلى محكمة العدل الكبرى؛ فلعل مَن في قلبه بقيةُ إيمانٍ أن يشفق على نفسه مِن منحِ أرصدته لسواه، وبين محكمتي الضمير والتأريخ تكرُّ الأعوامُ بمسافة ومضةٍ ولحظةٍ، وقد يستيقظ موتى وينتصف الزمن ونحن سادرون.
** وللصديق الذي شكا وطلب الكتابة لا تبتئسْ فللهاذرين البؤسُ والكآبة.
** التيَّار لا قرارَ له ولا استقرار.