احمد العلولا
قال تعالى في كتابه الكريم: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}.
كان الأربعاء المنصرم هو اليوم الأخير للعم الشيخ الفاضل/ صالح بن محمد القاضي في هذه الحياة الفانية، بعد ما يقارب من تسعة عقود عاشها، وقد اختاره ربُّ البلاد والعباد بعد معاناة مع المرض نحو سنة كاملة.
صالح القاضي، صاحب المجد والتاريخ الحافل، سيرة مليئة بالبصمات له، عرفه الناس بعصاميته القوية، ولذا أطلق اسم (عصام) على ابنه الثاني، والحديث عنه يطول، إلا أنني سوف أسعى جاهدًا للاختزال بقدر استطاعتي. بدأ القاضي حياته العملية معلمًا في أول ثانوية بالقصيم (عنيزة) التي وُلد بها، وغادرها مبكراً، ولأن الوفاء سمة متجذرة في أبناء (باريس نجد) قرر التدريس هناك، لكن سريعاً ما تم استدعاؤه للرياض وهو في سن الـ23 ليصبح مديراً لثانوية اليمامة التي تُعَدُّ في ذلك الوقت بمصاف واحدة من الجامعات.
انخرط أبا أحمد في الشأن الرياضي، وهو المتنفس الوحيد لأبناء مدينة الرياض التي لم تكن تتجاوز من المساحة والسكان حيًا واحدًا من أحياء العاصمة حالياً.
ولأن معظم مدن المملكة قبل نصف قرن تعيش مرحلة بداية الحركة الرياضية، كانت تلك الأندية - بالأكثرية - تتسمى بالأهلي، لذا وجد أبا أحمد نفسه يتجه مع غالبية شباب الحارة للالتحاق في صفوف النادي الأهلي الذي ضمَّ خيرة النجوم في عهد الرئيس/ عبد الله الزير - رحمه الله.
مثَّل الفريق لاعبًا، وبعد اعتزاله، فضَّل العمل الإداري، وكانت مجالس إدارات الأندية تشهد عملية انتخابات ساخنة، وتنافسًا محمومًا للفوز بمقعد، ونظرًا لثقافة صالح القاضي العالية مقارنة بغيرة، وتقديمه برنامج وخطة عمل ورؤيته للمستقبل، كان العضو الناخب يسارع إلى ترشيحه، وهذا ما يبرهن على وجوده في كل الإدارات كعضو ونائب رئيس وأخيراً رئيساً لتسع مواسم، وهي أطول فترة رئاسية لرئيس لنادي الرياض. تعرَّفت على العم/ أبا أحمد في العام 1398 هجرية، وكنت (سنة أولى) تدريس في ثانوية الجزيرة، وفي الوقت نفسه محرراً رياضياً بـ»الجزيرة».
طلب مني مدير ثانوية الجزيرة سابقاً الأستاذ المربي الفاضل/ عبد الله العنزي، مشاركة فريق كرة القدم في بطولة (سداسيات) بنادي الرياض تلبية لدعوة موجهة باسم رئيس النادي صالح القاضي، وحيث كنت مشرفاً على النشاط الرياضي بالمدرسة إلى جانب تدريس علم النفس والاجتماع، بوجود نخبة من الطلبة الرياضيين يتقدمهم الكابتن يوسف خميس/ صالح فيروز/ صالح الطرير/ مشيقح المشيقح/ منيع المنيع وآخرون، كان نادي الرياض بحجم (علبة الكبريت) في شارع (الفوالين) ولم يكن ببعيد (من جهة الشمال) عن ثانوية اليمامة، وهذا هو اسم الرياض سابقاً بعد سحب اسم الأهلي ومنحه أهلي جدة!
تعرَّفت أكثر على شخصية صالح القاضي ووجدته في قمة (الإنسان) خُلقاً وتواضعاً وسماحة، وفي غاية البساطة كعادة أهل عنيزة، فازت (جزيرتي) الثانوية بكأس البطولة المقدمة من قبل رئيس النادي، طلب مني الاجتماع به على انفراد بالإدارة وتحدث معي طويلاً وكان الأهم هو التعاون معه بوجودي في النادي، وقد اعتذرت له عن العمل بصفة رسمية، وقلت له: أنا حاضر وتحت أمرك متطوعاً، وهذا ما حدث.
في عهد أمير الشباب/ فيصل بن فهد - رحمه الله -، نظمت رعاية الشباب - وللمرة الأولى - مسابقة اختيار (اللاعب المثالي) وفقاً لشروط ومعايير دقيقة ومفتوحة لجميع اللاعبين في كل الألعاب، كانت الترشيحات تدور حول فوز أحد نجوم كرة القدم وتحديدًا صالح النعيمة أو ماجد عبد الله، وهذا لم يحدث، إذ كان اللاعب المثالي مهندس كرة الطاولة العربية النجم الراحل/ رائد الحمدان من نادي الرياض، وكان هناك تكريم كبير بتشريف رائد الرياضة السعودية أمير الشباب، أذكر أنني اقترحت على صالح القاضي قبل الحفل بيوم أن يصدر نشرة تعريفية (كتيب صغير) عن هذه المناسبة معرِّفاً بالبطل الرائد الذي بنى صيتاً ومجداً خالداً للرياض لما حققه من إنجازات للمملكة أولاً على صعيد البطولات العربية، فوافق دون تردد، وقال: أنت إعلامي، ولن أعلمك، نفذ ما تريد.
كنت على علاقة بالمخضرم الإعلامي الشيخ صالح الصويان - شفاه الله وعافاه- حيث يمتلك دارًا للطباعة والنشر، وقابلته وطلبت منه إصدار نشرة خاصة عن مناسبة تكريم رائد الحمدان، سألني؛ هل المادة التحريرية جاهزة، قلت؛ نعم، وسألته، كم ستكلف طباعة 1000 نسخة، أجاب ضاحكاً، كم عطاك صالح القاضي؟
قلت: طلب مني إرسال فاتورة بالتكلفة!
وهنا علق أبا علي صالح الصويان، ثلاثتكم (صالح وأنت ورائد) تستاهلون، وبالذات المهندس بطل العرب، وبالتالي الطباعة مجانية!
إلى هنا، وأتذكر موقفاً رائعاً للأمير الراحل فيصل بن فهد، إبان رئاسة صالح القاضي لنادي الرياض، يبدو تعرض فريق القدم الأول لظلم تحكيمي فادح في إحدى المباريات، وقد تأثر القاضي كثيراً الأمر الذي استدعاه لرفع خطاب عاجل للأمير يطرح من خلاله تقديم استقالته، ولأن فيصل بن فهد كان حكيمًا يملك نظرة ثاقبة للمستقبل، بعث بخطاب الرد وبكلمات محدودة مضمونها (لم أعهد فيك أستاذ صالح هذا الانفعال وتلك السرعة)، ولن أوافق على طلب استقالتك لأن الرياضة بحاجة لمن هو مثلك، وقدَّم الأمير مساعدة مالية قدرها مئة ألف ريال من حسابه الخاص لنادي الرياض، وهنا توطدت العلاقة بين الجانبين لتصبح أكثر قوة عن ذي قبل، وحتى بعد رحيل الأمير فيصل وابتعاد صالح القاضي عن ساحة الرياضة واختياره ميدان المحاماة، كتب قصيدة بخط يده مثمنًا دور فيصل بن فهد الريادي (لم تنشر بعد).
صالح القاضي، كتاب مشرف، شيَّد مدرسة الوسطى في عز توهجها ولم يكن ذلك على مستوى كرة القدم، كانت نظرته شمولية لكل الألعاب، بدليل أن نادي الرياض في عهده كان من أكثر الأندية حصدًا للبطولات، وقدَّم للمنتخبات الوطنية عدداً كبيراً من الأسماء التي لا تزال خالدة، كرائد الحمدان وخالد السماري ومحمد خير الله ورفعت طاشكندي ومحمد الحميضي وخالد القروني وغيرهم.
تميَّز الفقيد صالح القاضي بالذكاء والفطنة والقدرة على الحوار الإيجابي البناء، وهذا مما سهل عليه بعد ابتعاده عن الرياضة دخول عالم المحاماة، وله في هذا المجال نجاحات كبيرة لست بصدد الحديث عنها، قبل 42 سنة وقَّع لاعب تونس/ محمد علي عقيد عقداً للعب مع فريق الرياض، ذات يوم وقبل مباراة دورية مع الهلال (لم تؤجل المباراة) كان الرياض يجري مرانه الأخير بملعب الحرس الوطني، وحدث أن نزلت صاعقة أدت لوفاة عقيد، وحسب تقرير مشفى الحرس أنه نتيجة لارتداء اللاعب (قلادة ذهبية) فإنها كانت مصدر جذب للشحنات الكهربائية تسببت في مقتله في الحال، للأسف أشاعت بعض الصحف المعادية للمملكة أن وفاة اللاعب كانت نتيجة تعرضه لقتل عمدًا، وهذا لم يكن صحيحًا بدليل شهادة مدرب الرياض وقتها عمار النحالي (تونسي) وأقوال عدد من لاعبي تونس الموجودين في الهلال والنصر وكلها تدحض مقولة تعرض عقيد للقتل. بأمر من الأمير فيصل بن فهد توجَّه إلى تونس صالح القاضي بصفته رئيسًا لنادي الرياض ومعه جثمان الفقيد، وهناك بفضل من الله أولاً وحنكة القاضي ثانياً تم إنهاء الموضوع باعتباره حادث قضاء وقدر..
استمرت علاقتي بالحبيب الغالي، وكنت حريصًا على زيارته مرة أو مرتين في الأسبوع بحضور أبنائه الكرام وأبناء عمومتهم وأخيه عبد الرحمن، وذلك في خيمته المفضلة التي لا يفارقها إلا عند الصلاة أو النوم، وفي كل زيارة رغم صعوبة الكلام لديه، أجده (هاشًا باشًا) بوجه باسم مرددًا باستمرار (لا إله إلا الله).
رحل الذين نحبهم لكنهم
بدعائنا باقون لم يرحلوا
إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولن أقول إلا ما يرضي رب العالمين، إنني عليك أيها العم الفاضل/ صالح القاضي لمحزون، ومفجوع، لكن هذا هو قضاء الله وقدره، أسأل الله أن يجمعنا بك في جنات النعيم.
و،، سامحونا