خالد بن حمد المالك
منذ قيام الكيان الإسرائيلي، واعتراف العالم به دولة مستقلة، وعضواً في الأمم المتحدة، ومواكبة ذلك بتعاون دولي يصل إلى حدّ الدعم غير المشروط وبلا حدود لإسرائيل في مواجهة التهديد العربي لإزالتها من الأراضي المحتلة، منذ ذلك التاريخ في العام 1948م، وتل أبيب تتطوّر، وتتقوّى عسكرياً، وتستغل الصوت العربي الذي يهدِّد وجودها لكسب تعاطف ودعم دول العالم الكبرى، بما جعلها منذ عقود هي الأقوى عسكرياً على مستوى المنطقة وبين دولها.
* * *
كانت هناك مبادرات وفرص وحلول كثيرة لو تم تطبيقها لأمكن تخليص الشعب الفلسطيني الشقيق من معاناته، لكن القيادة الفلسطينية لم تساعد على تحقيق ذلك، ولم تكن مستعدة للقبول بأقل من طرد إسرائيل من كل الأراضي التي تمثِّل الدولة الإسرائيلية، رغم اعتراف العالم بها، إلى جانب إقامة دولة للفلسطينيين، غير أن التمسك العربي والفلسطيني بمواقفه من أنها دولة محتلة ومغتصبة، وأن عليها أن ترحل دون النظر إلى موازين القوى عسكرياً بين إسرائيل المدعومة عالمياً، والعرب الذين رفضوا القبول بمبدأ التقسيم، وبدولتين تتعايشان سلماً، أضاع ما كان يمكن تحقيقه لصالح الفلسطينيين.
* * *
كانت حرب الأيام الستة عام 1967م قاصمة الظهر، فلم تستطع مصر وسوريا والأردن مجتمعة، مدعومة من الدول العربية، أن تلحق الهزيمة بإسرائيل، بل إنها لم تستطع حتى في المحافظة على ما كان تحت سلطة وأمانة مصر والأردن -غزة والضفة- فقد احتلتها إسرائيل خلال الحرب دون عناء، إلى جانب احتلالها لأراضٍ أخرى مصرية وسورية، ما جعل الرئيس جمال عبدالناصر بعد انتهاء الحرب يسرع إلى إعلانه تحمله شخصياً مسؤولية الهزيمة، وإلى تقديم استقالته التي رُفضت من المصريين، وإلى إسراع الدول العربية من جانبها لعقد مؤتمر قمتهم الاستثنائي بالخرطوم في شهر أغسطس عام 1967م، معلناً في اختتام اجتماعاته في الخرطوم عن لاءاته الثلاث الشهيرة، لا صلح، ولا اعتراف، ولا تفاوض مع إسرائيل.
* * *
لتتوالى الفرص والمبادرات التي أضاعها العرب والفلسطينيون والإسرائيليون، بدءاً من دعوة الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة في خطابه بأبناء فلسطين خلال زيارته لأريحا في فلسطين ومضمونه: خذوا وطالبوا، فناله يومها من منظمة التحرير الفلسطينية من الشتم ما ناله، إلى مبادرة وليم روجرز وزير الخارجية الأمريكية الأسبق في شهر يونيو من عام 1970 التي تنص على تطبيق قرار مجلس الأمن 242، وقد قبلها الرئيس عبدالناصر، فيما رفضتها إسرائيل، وُوجه قبول عبدالناصر لها برفض فلسطيني وعربي، وكان التعامل الفلسطيني والعربي مع عبدالناصر إثر قبوله مبادرة روجرز مثلما كان عليه التعامل مع دعوة الرئيس بورقيبة، لتأتي مبادرة فاس التي قدمتها المملكة إلى القمة العربية التي عقدت هناك عام 1981م وسحبتها المملكة في ظل تردد بعض الدول في القبول بها، فالمبادرة السعودية الأخرى التي تبنتها القمة العربية في اجتماعها في بيروت في شهر مارس عام 2002م بمسمى مبادرة السلام العربية، وقد رفضتها إسرائيل، ومثلها كان اعتراف الرئيس السادات بإسرائيل عام 1978، وقد سبقها بزيارة إسرائيل وإلقاء خطاب في الكنيست، ودعوته للفلسطينيين لوضع أيديهم بيده للحصول على شيء من مطالبهم وحقوقهم المشروعة لكنهم رفضوا، وإلى اعتراف الأردن بإسرائيل في أكتوبر عام 1994م، ثم دخول الفلسطينيين في الوقت غير المناسب في مباحثات مع إسرائيل في «أوسلو»، واعترافهم بها ضمن شروط إسرائيلية، وقد رفضها أغلب الفلسطينيين، ومع ذلك لم تلتزم إسرائيل بما تم الاتفاق عليه، ليأتي -مؤخراً- اعتراف الإمارات، فالبحرين بإسرائيل خلال هذا العام 2020م، فيخرج الفلسطينيون عن طورهم ويسيئوا للدولتين الداعمتين للحقوق الفلسطينية، دون مراعاة لتمسكهما رغم التطبيع بحق الفلسطينيين بدولة مستقلة لهم.
* * *
بالمناسبة، وللتذكير ليس إلا، فإن بعض أهم ما تحتفظ به الذاكرة العربية والفلسطينية عن هذا الصراع المرير الطويل مع إسرائيل، ما تعرضت له مصر من هزيمة في العدوان الثلاثي عليها الذي شاركت فيه كل من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل عام 1956م، وانسحاب إسرائيل من سيناء بعد احتلالها بضغط دولي، وتحديداً من الولايات المتحدة الأمريكية، وهزيمة عام 1967م واحتلال أراضٍ مصرية وأردنية وسورية، وما تبقى من أراضٍ كانت متاحة للفلسطينيين ضمن القرار الأممي بإقامة الدولتين، ثم حرب 1973م التي أعادت لمصر أراضيها المحتلة في سيناء مقابل الاعتراف المصري بالدولة الإسرائيلية.
* * *
وضمن الأسلحة التي استخدمها الفلسطينيون ضد إسرائيل وأعطت نتائج عكسية أضرت بسمعة النضال الفلسطيني، اختطافهم للطائرات المدنية الإسرائيلية، وتفجير مواقف السيارات وقتل الركاب في عدد من المدن الإسرائيلية، وقتل عدد 11 رياضياً إسرائيلياً بعد احتجازهم بمقر إقامتهم في ميونيخ بألمانيا، حيث كانوا يشاركون في فعاليات دورة الأولمبياد الصيفية في شهر سبتمبر من عام 1972م، ولا ننسى صواريخ حماس قليلة التأثير، مما فتح الطريق لإسرائيل، وهيأ لها الفرص لتدمر البنية التحتية في غزة، وهدم المباني، وقتل الكثير من الفلسطينيين، وعزل قطاع غزة عن محيطه براً وبحراً كما لو أن القطاع أصبح سجناً.
* * *
في المقابل طاردت إسرائيل النشطاء والقادة الفلسطينيين أينما وجدوا خارج الأراضي المحتلة، في لبنان، في دبي، في تونس، وفي الأردن وغيرها، وقتلت كل من كان يشكِّل خطراً أو تهديداً لأمنها، أو يطالب باسترداد حقوقه المغتصبة، ورفضت الالتزام بكل المبادرات التي وافقت عليها دون استثناء، اعتماداً على مركز القوة العسكرية التي تتمتع بها، ما جعلها تهوّد الأراضي الفلسطينية، وتستولي عليها، وتطرد العرب الفلسطينيين منها، وتقيم كيانات ومباني لليهود فيها، مع وضع الفلسطينيين في سجن كبير في غزة وجزء من أراضي الضفة الغربية، وتطويقهم بالجدار العازل بالنسبة لغزة، وبالسيطرة على المناطق التي يوجد فيها الفلسطينيون بالضفة الغربية.
* * *
ماذا بقي للفلسطينيين بعد كل هذا غير أن يستثمروا اعترافات بعض الدول العربية بإسرائيل في الحصول على مكاسب لن تتحقق لهم، فيما لو بقي العرب يعادون إسرائيل، ويرفضون الحديث معها، أو الاعتراف بها، ويهددونها حتى ولو اقتصر هذا التهديد العربي والفلسطيني على ما تبثه وسائل الإعلام العربية والفلسطينية التي أساءت للحقوق الفلسطينية أكثر بكثير مما أفادتها، ولم تلحق أي ضرر بإسرائيل، ولن يجدي تخوين من يعترف من العرب بإسرائيل، وخاصة أن السلطة الفلسطينية وسلطة غزة ليس لديهما من القوة ما يمكنها لاسترداد الحقوق المشروعة والعادلة للشعب الفلسطيني، مع تراجع علاقاتهم العربية والدولية إلى أدنى مستوى لها حالياً.
* * *
هناك فرص قادمة مرشحة للرفض من الفلسطينيين، كما رفضوا سابقاتها، وهناك تعامل فلسطيني غير عاقل وغير حكيم مع من اعترف أو سيعترف بإسرائيل من الدول العربية، ما يُضعف من فرص إقامة الحلم الفلسطيني في إقامة دولة لهم بحدود آمنة توافق عليها إسرائيل ويقبل بها الفلسطينيون، وما عدا ذلك فسوف تستمر المتاجرة بالقضية الفلسطينية، من الفلسطينيين وبعض العرب، ومن ثم سوف يضيع ما بقي من الحلم، وقد لا يعود.