قال الله تعالى: {قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}.. وقال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}.
وعن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «ما من عبد تصيبه مصيبة، فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، واخلفني خيراً منها، إلا آجره الله في مصيبته، وأخلف له خيراً منها». وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «يقول الله -عز وجل-: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صَفِّيَه من أهل الدنيا، ثم احتسبه إلا الجنة».
إنه قضاء الله وقدره، ولو الأمر بيد الإنسان لأطال عمره وكم يبذل من جهد لهذا السبب، ولكن إذا جاء الأجل المحتوم، فلا مفرّ منه مهما حاولنا وصارعنا فإن الموت علينا حقّ، ولا يسلم منه لا نبي مُرسل، ولا ملك مبجل، والقدر المحتوم قادم ولا هروب منه، ولو كنّا في بروج مشيّدة، وكما قال تعالى في محكم كتابه،»{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ }.
على المسلّم والمسلمة الرضا بقضاء الله، نعم علينا أن نرضى بقضاء الله وقدره, فقد قضى الله سبحانه وتعالى بموت الإنسان الذي أحببناه، وخاصة من لك معه ذكريات قديمة وغالية، وعلينا نحن البشر أن نؤمن بالقدر خيره وشرّه، وأن نتقبّل المصيبة مهما كان حجمها وعِظم أثرها، لأن في ذلك أجراً عظيماً -بإذن الله-.
إن الحزن والألم اللذين أصاباني خلال الأيام الماضية وأصاب أهلي في دولة الكويت الشقيقة كبير وكبير، وعظيم عظيم، بعظمة رحيل رجل الرجال، أمير الإنسانية، وعميد الدّبلوماسية، ورجل الحكمة والحاكم بروح الإنسان المتواضع والذي منحه الله الخُلق والأخلاق، وحسن المعشر والتّعامل الرفيع، انه سمو الوالد قدراً ومكانة الأمير والشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح -طيّب الله ثراه وجعل الجنّة مثواه-.
إن العين لتدْمع.. والقلب ليحْزنْ، برحيلك عنّا، «أبو ناصر» الحبيب، عرفتك بكلّ الخصال الحميدة وكان اللقاء الأول في الكويت في الستينيات عندما كان وزيراً لوزارة الإرشاد والأنباء، وفي أوائل السبعينيات الميلادية لقاء للمرة الثانية وكان - رحمه الله - وزيرا للخارجية ورئيساً لوفد بلاده لمؤتمر منظّمة التعاون الإسلامي في مدينة جدة، وكنت حينها مندوبًا صحفياً نشطاً أعمل على تغطية المؤتمر لصحيفة عكاظ. وكان اللقاء هذا اللقاء الثاني مع شيخنا وحبيبنا «أبو ناصر».
وأتذكّر حينها أنه كان من ضمن جدول أعمال المؤتمر الرئيسية مناقشة انفصال بنجلاديش عن الباكستان، ودارت حينها مناقشات حادّة برفض الانفصال من قبل الدول المشاركة، وبعد هذه الجلسة كنت في حديث معه -رحمه الله- كصاحب نظرة ورؤية لما سيتم مستقبلاً..!! وبدبلوماسية فقيدنا «أبو ناصر»، سألته عن الانشقاق والرفض وعدم اعتراف الدول بهذا الانفصال فقال: عبد الله كلّ هذا بعد أيام سينتهي وسينفرط العقد وسوف تعترف جميع الدول ببنجلاديش..!!
وفعلاً حصل ما تنبّأ به شيخنا -رحمه الله- وخلال فترة قصيرة تمّ الاعتراف بها..!، وبعد هذا اللقاء توطدّت علاقتي مع الفقيد الغالي وكان هناك تواصل صحفي وشخصي لم ينقطع مع سموه، وتخللّتها زيارات عديدة، واستمرت بل زادت خلال الاحتلال الغاشم على الكويت « لا أعادها الله من ذكرى»..!!
وبعد أن تولّى سموه -رحمه الله- مقاليد الحكم شرفت بزيارة سموه مرات عديدة كمحبّ له شخصياً وللكويت وأهلها، وكنت في كل زيارة أحظى برعايته واهتمامه وتقديره وحفاوته، وكم من مرّة يقول لي -رحمه الله- «: عبد الله لو أعرف أنك جيت للكويت ولا شفتك تراني سوف أزعل منك. وكنت عند وعدي لا أشعر باكتمال زيارتي للكويت إلا بطلب مقابلة سموه، وكنت ألقى كلّ الترحيب والاهتمام.
إضافة إلى ذلك وحتى يكتمل عقْد الزيارة يكون لي لقاء بسمو ولي العهد أمير البلاد حالياً الشيخ نواف الأحمد وعدد من الشيوخ الأفاضل.
كم كان الراحل الكبير الشيخ صباح الأحمد -رحمه الله- متواضعاً، بسيطًا يتمتّع طوال حياته بعفوية نادراً ما تجدها في زعيم وقائد دولة، كم كنت أسمع وأشاهد سموه وهو يفاجئ الكثير بزياراته مواسيًا في عزاء أو مشاركاً في فرح أو أمسية رمضانية ِأو ثقافية؛ مما أكسبه شعبية ومحبّة في قلوب أهل الكويت بمختلف مشاربهم.
في إحدى زياراتي لسموه -رحمه الله وغفر لنا وله- قدّمت له درعاً تذكاريًا دوّنت به أول لقاء صحفي لي معه قبل أكثر من حوالي 50 عاماً مضت، وبعد أن شرحت لمقام سموه قصة اللقاء، وبابتسامته المعهودة قال: ((أوه يا عبد الله لو ترجع تلك الأيام من عمْرنا وياك ))...!
فكم كان -رحمه الله- رقيقاً صادقاً في عواطفه ولقاءاته، التي يترك لدى زائره بأنه صاحب المكان ويخفّف عنه من توتر في مجلس حاكم محنَّك بشخصية « أبو ناصر» الفريدة.. ولن ننسى جميعاً عندما كرَّمته الأمم المتحدّة وسُمِّيَت الكويتُ «مركزًا للعمل الإنساني» تقديرًا من المنظمة الدولية للجهود الذي بذلها الأمير وبذلتها الكويت خدمة للإنسانية.
ولُقِّب سموه -رحمه الله- بأمير الإنسانية وشيخ الدبلوماسيين العرب والعالم» و»عميد الدبلوماسية العربية والكويتية»، التي برع فيها ليستحق عن جدارة لقب مهندس السياسة الخارجية الكويتية وعميد الدبلوماسيين في العالم، بعد أن قضى 40 عاماً على رأس تلك الوزارة المهمة قائداً لسفينتها إبان عمله وزيرا للخارجية.
رفع المغفور له -بإذن الله- الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح علم الكويت فوق مبنى الأمم المتحدة بعد قبولها عضواً فيها في 11 مايو / أيار 1963، وبذل طوال سنوات قيادته لوزارة الخارجية جهداً كبيراً في تعزيز وتنمية علاقات الكويت الخارجية مع مختلف دول العالم، كما قام بالعديد من الوساطات التي أسهمت في حل العديد من الأزمات العربية منها والدولية، واستمر في مسيرة العطاء بعد تعيينه رئيساً للحكومة الكويتية حتى يناير / كانون الثاني عام 2006، عندما عقد مجلس الوزراء الكويتي جلسة وتم تزكية سموه -رحمه الله- أميراً لدولة الكويت.
مسيرة عطاء ونماء وخير تحقّقت خلال تلك المسيرة التي قادها -المغفور له بإذن الله- صاحب السمو الشيخ الرؤوم الرحيم « صباح الأحمد الجابر الصباح « لتكون الكويت دولة ذات مكانة عالية مرموقة، بشعب أبيّ يقف مع قيادته ووطنه بكلّ ولاء ومحبّة وإخلاص، ولتستمرّ قيادتها الجديدة بأميرها الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح ووليّ عهده الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح الحريصين جدا على التواصل والتشاور مع قيادتنا الحكيمة في كلّ ما فيه مصلحة البلدين الشقيقين، ودعم مسيرة دول مجلس التعاون الخليجي وتقوية أواصر المحبّة والأخوّة بين شعوب دولها، والحرص المعهود بالحذر في ظلّ الظروف المحيطة بِنَا وما يخطّطه أعداء النّجاح والأمن والاستقرار من مكائد ومؤامرات ونشر الفتنه بين شعوب دول المجلس والدول المساندة لها.. الحرص واجب والحذر مطلوب فكم من متربّص بِنَا ودولنا لا يتمنى لنا هذا الأمن والعيش الرغيد الذي ليس لأحد به منّة علينا وإنما هو من فضل الله علينا.
فعلينا أن نحمد الله ليل نهار ونأخذ من دول أخرى دروساً وعبرة لما تعانيه من عدم أمن ولا استقرار وحرمان وقتل واقتتال.
حفظ الله وطننا ووطنكم أهلي بالكويت وحفظ لكل بلاد الأمّة أوطانها، وأحرّ التعازي من قلب محبّ بل من كل سعودي وسعودية لكم قادة الكويت وأهلها الكرام بفقدان والدكم والدنا قدراً ومكانة -المغفور له بإذن الله- الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح -رحمه الله-. وأطيب التهاني لأهلنا في الكويت بسمو الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح أميراً لدولة الكويت وسمو ولي عهده الشيخ مشعل الأحمد الصباح، والدّعاء إلى الله -جلّت قدرته- أن يوفقهما الله لما فيه خير الكويت وشعبها، إنه سميع مجيب.
خاتمة:
لا تشتكي من الأيام فليس لها.. بديل
ولا تبكي على الدنيا ما دام آخرها.. الرحيل
واجعل ثقتك بالله دوماً فليس لها.. مثيل
وتوكل على الله الواحد الأحد حق التوكل فإنه على كل شيء.. وكيل
واشغل حياتك بعمل وذكر وشكر تجد كل ما فيها.. جميل
وأكثر من الاستغفار فإنه للهموم والكرب.. يُزيل
** **
- عبدالله بن محمد آل الشيخ
Alsheikhabdullah@yahoo.com