عبدالسلام العزوزي
صفَعت الفرنسية التي اعتنقت الإسلام في مالي «مريم بترونين» الرئيس الفرنسي وهو منْتَشٍ باستقبالها في مطار باريس، بعد تحريره آخر رهينة فرنسية في العالم من يد مختطفيها على مدى أربع سنوات بالتراب المالي (24 ديسمبر 2016- 10 أكتوبر 2020)، بعدما حرر 200 مجاهد في مالي، ودفع دية مالية مهمة لجماعة جهادية تنشط في شمال مالي، وأحدثت الرهينة المحررة «مريم» أيضاً ضجة كبرى وسجالاً حاداً في أوساط الفرنسيين المتطرفين الذين انسحب من يمثلهم في برلمان فرنسا قبل أسابيع على إثر حضور الطالبة «مريم بوجيتو» متحجبة في البرلمان، ممثلة للقطاع الطلابي الفرنسي.
وعاش الرئيس الفرنسي «ماكرون» الذي وصف الإسلام «بالمأزوم» قبل أيام واعتبره يعيش أزمة كبيرة في العالم، صدمة قوية سرَّعتْ من مغادرته للمطار غاضباً، ملغياً خطاباً كان قد حضره لإلقائه أمام الرهينة المحررة «صوفيا بترونين» قبل إعلان إسلامها في وجه الرئيس الفرنسي، وأمام مختلف وسائل الإعلام الغربية والفرنسية بالأساس، الذين بقوا فاغرين أفواههم لا يلوون على شيء مما كان يحدث في مطار باريس، وهم الذين واصلوا شحذ أقلامهم ضرباً في الإسلام والمسلمين على مدى أربع سنوات؛ مدة اختطاف الرهينة «بترونين» التي أعلنت أمامهم أنها اعتنقت الإسلام وأصبح اسمها «مريم» وليس «صوفي»، قائلة «تقولون «صوفي»، لكن «مريم» هي التي أمامكم، وأضافت «سأصلي من أجل مالي وأنا أطلب البركات والرحمة من الله لأنني مسلمة».
هي عِبَر من أخرى، تؤكد أن الأمر ليس بيد الفرنسيين أو غيرهم للنيل من عظمة الإسلام ومحاولة تشويه المسلمين، بمجرد خطابات أو دسائس هنا، وهناك، أو حرق للقرآن الكريم، أو سن لقوانين تمس بحرية وكرامة المسلمين، إنما هي إرادة الله الأقوى من هؤلاء، والأكبر منهم، والأعظم منهم، كلهم؛ فالله الواحد الأحد الصمد هو الذي يحفظ دين الإسلام، ويحفظ قرآنه الكريم؛ {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} سورة الحجر (9).
كمْ انتظر الرئيس «ماكرون» كي يجعل من استقباله لهذه الرهينة «صوفي» لكي يؤثث لدعوته التسريع بسَن قانون «الانفصالية» (le séparatisme) ويرسخ فكرة وصف المسلمين «بالانعزاليين» في أذهان الفرنسيين وفي مقدمتهم نواب الشعب الفرنسي للتصويت على هذا المشروع المشؤوم الذي يستهدف بالأساس الإسلام والمسلمين.
هذا الحدث يجُرني إلى أن أفتح ثقباً صغيراً في دفة التاريخ الفرنسي الدموي وصراعه مع الإسلام والمسلمين، خصوصاً في مستعمراته بشمال إفريقيا، حيث حاول جاهداً أن يفرنس الموروث الثقافي والحضاري لهذه المنطقة الإفريقية العربية المسلمة ولم يفلح، ذلك أن فرنسا الاستعمارية جربت كل وسائل الترغيب والترهيب والتعذيب والتقتيل في شعوب المنطقة، وبالأخص في المنطقة المغاربية، حيث عمدت إلى انتقاء عشر (10) فتيات مسلمات جزائريات، ألحقتهن بالمدارس الباريسية ولقنتهن اللغة والثقافة الفرنسية، وألبستهن اللباس الفرنسي.
وبعد أكثر من عقد من الزمن مِن التكوين الموجه لطمس هوية الفتيات الجزائريات المنتقاة بعناية فائقة، هيأت الدولة الفرنسية، سنة 1930 لهن حفلة تخرج؛ احتفاءً بهن، حضرها مسؤولون حكوميون وشخصيات وازنة وصحفيون.
وحين بدأ الحفل وطُلب من الطالبات الخروج أمام الحضور، فوجئ الجميع بارتداء الفتيات الجزائريات لباسهن الإسلامي الجزائري «الحايك»، حفاظاً منهن على موروثهن الحضاري الإسلامي. أصاب الحضور صعقة كبيرة، وذهلوا من هول ما شاهدوه، وثارت ثائرة الصحافة الفرنسية، ووجهت سؤالاً إلى وزير المستعمرات الفرنسي -آنذاك- وكان اسمه «لاكوست»: ماذا كانت تصنع فرنسا في الجزائر طيلة مائة وعشرين (120) عاماً من الاستعمار؟
عندها قال «لاكوست» قولته الشهيرة: «وماذا عساي أن أفعل، إذا كان القرآن أقوى من فرنسا».
وها هو ذا التاريخ يعيد نفسه مع الرهينة الفرنسية «مريم» الذي أجهد الرئيس نفسه في إطلاق سراحها وغيرهم كثير ممن أكدوا أن الإسلام أكبر من كل هؤلاء، وأن الحرية ليست في الاعتداء على الشعائر الدينية وتفضيل الواحدة عن الأخرى، إنما الحرية قوامها العيش المشترك في ظل احترام قيم التسامح، وفي الاختلاف رحمة بين الشعوب وبين الأفراد.
وكأني بالرئيس «ماكرون» يردد ما قاله الوزير «لاكوست» بعد مرور تسعين عاماً (90): «وماذا عساي أن أفعل، إذا كان الإسلام أقوى من فرنسا».
** **
مدير نشر صحيفة المنعطف - باحث ومحلل سياسي - المملكة المغربية