د. خيرية السقاف
ذلك العالم الثقة, الذي كان محدثًا صادقًا حكيمًا
الذي كان يخاطب العقول عن لسان رطب ندي, عن جوف سخي زاخر..
عن علم عميق يهذب المقصد والمنهج..
عن أدب جمٍّ يخط الحدود, ولا يحيد عن الجادة, ولا يسطو بصلف..
الذي هو «علي الطنطاوي»
في معرض حديث له حين كان الصغير قبل الكبير يتشبث جلوساً أمام شاشة التلفاز حين يطل, أو خلف المذياع حين يدر..
قال: «العلم في الكبر كالنقش في الماء»..
لحظتها كان يحاول أن يسجل حديثه وهو يقلب جهاز تسجيل تعود أن يرافقه في كل حلقات برنامجه الشهير «نور وهداية» ولم يفلح, فوضعه جانباً وهو يتجه لمستمعيه راجيًا أن يعلّموا أبناءهم في الصغر قبل أن يكونوا جاهلين في الكبر..
الطنطاوي ذهب لأبعد من ظاهر العبارة لأعمق درس في التربية, والتعليم, ووضع نفسه مثالاً حين فشل في إعمال جهاز التسجيل أمام المشاهد, ذهب لقاعدة تربوية وتعليمية مهمة بكلمات قليلة توشت بأثره النافذ لأعماق الإحساس قبل التفكير..
وهو يقارن بين مثل سائد ينص على «العلم في الصغر كالنقش في الحجر», وبين ما وصلت إليه خبرته المديدة أو هو يرسلها في مقولته: «العلم في الكبر كالنقش في الماء»..
هذا المعلم الذي لم يتكرر في العصر الحديث صنوٌ له قدم على الهواء النموذج الفعلي للوعي, والحقيقة الصريحة للمثالين حين طبّقهما على محاولته وهو في عمره المتقدم آنذاك للتعلم كيف يتعامل مع جهاز التسجيل, الاختراع الذي انتشر حينذاك, وأصبح في أيدي ذلك الجيل ولم يحسن هو استخدامه, مع أنه يؤكد أنه حينذاك قد اقتنى منه ستة أجهزة مثيلة للذي بين يديه؟!
الطنطاوي وضع حقيقة أن التعلّم في الكبر «كالنقش في الماء» بمعناها الفعلي, بينما التعلّم في الصغر «كالنقش في الحجر» بواقعيتها العملية جسراً ليقول للوالدين: «علِّموا أبناءكم دينهم وهم صغار»..
إنهم حين لا يُنشَّأوون على معرفة دينهم, وأدائه, وتمثّله, والتعايش اليومي مع فروضه, وواجباته, فسوف لن يفعلوا وهم كبار,,
صدق الطنطاوي, صدق الحكيم, السخي..
فكم هي البيوت الآن ينام أفرادها على أجهزتهم, ومحتواها, ويستيقظون عليها, وهم لا يصلون في الميقات, ولا يتلون الآيات, ولا يستأنسون بذكر يلهم بالرحمات..
بل ذهبوا يخوضون في قشور تتطاير من حولهم, يهرفون في دينهم بما لا يعرفون لأنهم لم يتعلّموه في صغرهم كما يجب, ولم يمارسوه سلوكاً, ويتعايشوه إحساساً..
الطنطاوي يقول: «علِّموا أولادكم دينهم في الصغر» ليثبت فيهم كما «النقش في الحجر»..
فالتعلّم في الكبر «كالنقش في الماء» هذا إن حاولوا الخوض في مائه, إن!..