رجاء العتيبي
بريخت وهو الإنسان الثائر منذ طفولته، لم يجد في المسرح الدرامي مبتغاه، ذلك أن النص المسرحي الدرامي نص موضوعي، محايد ينحاز للفن والجمال ويضع المتلقي أمام عالم متخيّل مستقل بذاته موازٍ للعالم الحقيقي، يأسر عاطفة المتلقي فيحصل له الشفقة والفزع والتطهير كما هي قوانين الدراما، وهذا ما لم يعجب بريخت الذي يريد من المتلقي فاعلاً في المسرح، يريده ثورياً هو الآخر، لذلك وصف المسرح الدرامي بأنه يستلب العقول، وهو الذي يريدهم في حالة ثورية. فالمسرح في يده ليس سوى أداة ثورية، وليس فناً.
عندما استلهم بريخت السرد في مسرحه، أخذ يسرد الأحاديث وليس الأحداث، مركّزاً على السارد برؤيته (من خلف) فصار بريخت كاتباً ضمنياً وسارداً تخييلياً في آنٍ واحد، يوجه الشخصيات ويرتبها ويعيد سير الأحاديث حتى بسط نفوذه عليها، وتجاوز حدودها إلى بسط نفوذه وهيمنته على المتلقي وصار موجهاً له ومحرضاً.
يريد من المسرح موجهاً للواقع الحقيقي من خلال مخاطبته للعقول، ويربطه باستمرار بقضايا عصره. والدراما غير ذلك، الدراما معنية بهموم الشخصيات الدرامية المستقلة في عالمها، يأخذ منها المتلقي ويترك ما يريد باستقلال تام ودون وصاية من أحد.
ولا يعني انفتاح الأجناس الأدبية على بعض في عصر الحداثة وما بعدها، أن المسرح الدرامي بوصفه نظاماً مستقلاً أنه قبل السرد الروائي والقصصي، أبداً، النص الدرامي ظل وسيظل نصاً مرتكزاً على الفعل، وليس على سرد الأحاديث، وكل ما فعل ذلك الانفتاح أنه أنتج لنا نصوصاً مسرحية سردية يتحقق فيها معنى الأدب، نقبلها في نظامها الجديد تبعاً لتطور الفكر، وتحقيقاً لمبدأ التنوع في الثقافة والفنون والأدب، فيصبح لدينا مسرحًا دراميًا، ومسرحًا أدبيًا، فلا ضرر ولا ضرار.
بريخت لم يكسر قواعد أرسطو في المسرح الدرامي، إنما أوهمنا بذلك، كل ما فعله أنه أسس مسرحاً قائماً بذاته استلهم فيه قوانين السرد، وقوانين القرن العشرين الذين كسروا المطلق الميتافيزيقي.