عمر إبراهيم الرشيد
كنت في أحد المساءات أقرأ في النسخة الورقية من إحدى الصحف وأنا في أحد المقاهي، فكان أن توقف عندي شاب في أوائل العشرينات من عمره وأشار إلى الصحيفة بأصبعه متعجباً وقال «جريدة!». ضحكت من ردة فعله دون استغراب بالطبع، لكنه اقترب بعد التحية وطلب الإذن بالاطلاع عليها فرحبت به، وحين أخذ يقلبها ذكر لي بأنه آخر مرة شاهد والده يقرأ في جريدة كانت قبل خمس سنوات تقريباً. أخذنا نتجاذب أطراف الحديث عن هذا الشأن الذي هو حديث العالم فيما يخص القراءة، واعتماد جيل (الإنترنت) على القراءة من خلال الأجهزة اللوحية (هذا لمن يقرأ بالطبع) عوضاً عن المواد المطبوعة والورقية. ورأيي الذي استمع له ذاك الشاب اللطيف هو رأي معظم جيلي ولا أقول جميعهم بأن القراءة في الصحف والكتب المطبوعة له وقعه النفسي وسحره الخاص، وأذكر دعاية في التسعينات تتضمن لقطة لقارئ يمسك بكتاب ويشم عبق صفحاته وكأنه يشم وردة، في دلالة على ارتباط وجداني وذهني مع الكتاب الورقي.
أعجبت بفضول ذاك الشاب ووضوحه حقيقة، وزاد إعجابي بشخصه حين أدركت بأنه يعمل في ذاك المقهى كنموذج مشرف لإقبال شبابنا على العمل والاعتماد على الذات بعد الله عزل وجل لاكتساب دخل مادي وخبرة يشقون بها طريقهم في هذه الحياة. أعجبني أحد الحسابات في (تويتر) ممن تعنى بالكتاب ونشر عادة القراءة الحضارية في الأماكن العامة والمطارات وغيرها، وهو تحت اسم (الكتاب الطائر) وفكرته أن تضع ملصقاً يحمل هذا الاسم على كتبك التي قرأتها وترغب في التبرع بها وتركها في الأماكن العامة ليستفيد منها الغير ويقرأها، وهي فكرة بدأت في أمريكا قبل عدة سنوات ثم انتشرت في دول ومجتمعات أخرى فوصلت إلينا، وهذا مما يحمد من استيراد الأفكار النيرة والتقليد الإيجابي لا السلبي والحكمة ضالة المؤمن. لا أعلم حقيقة هل ما زالت مادة القراءة ضمن مناهج التعليم الأساسي في المملكة، لكني أزعم أن إعادة الطلاب والطالبات إلى الكتاب والقراءة الحرة أمر ليس بالصعب، وترك حرية اختيار الكتاب للطالب والطالبة واعتبار هذا النشاط من ضمن مهارات الحياة وتطوير الذات والتعلم، لا أن تقرر كمادة لها اختبار فتأخذ طابع الاجبار وتفقد تأثيرها الايجابي، وحتى لو لم يستفد من هذه المادة إلا ربع الطلاب فقد حققنا على الأقل بداية جديدة تتزايد معها هذه النسبة تدريجياً. وهذا النشاط أساسي في التعليم في الدول الرائدة في هذا المجال، وبالمناسبة فإن فنلندا تأتي حالياً في الموقع الأول عالمياً في جودة التعليم، والذي ينتهج تنمية مهارات الطلاب والتعليم الذاتي، لا التلقين وإفراغ المعلومات في الاختبار لتتبخر بعد ذلك بوقت ليس بالطويل وتبقى استفادة الطلبة مما تعلموا محدودة في مجالات العمل والحياة.
ومع الثورة الرقمية الحالية وهيمنة وسائطها على اهتمامات وأوقات البشر، تظل مساحة القراءة الرصينة وزيادة المخزون الثقافي متاحة على صغرها لمن يدرك معنى أن تمسك بكتاب لتقرأه، وسحر وروعة هذه العادة الراقية!، دامت لكم متعة المعرفة وصحبة الكتاب، إلى اللقاء.