عبدالمجيد بن محمد العُمري
مع البشرى السعيدة التي زُفّت إلينا -مؤخراً- عن بدء تفعيل تطبيق (اعتمرنا) للراغبين في أداء العمرة، وشوقنا إلى بلد الله الحرام، تذكرت ما كنا ننعم فيه من نعمة التيسير لزيارة البيت الحرام بيسر وسهولة وأمن وأمان، وما نحن فيه من رخاء واطمئنان، وقبل ذلك نعمة التوحيد والإيمان، فنعم الله علينا كثيرة، وآلاؤه عظيمة، لو جلَسنا نُعدِّدها ما استطعنا، لكن هنالك نعمة في غاية الأهميَّة والخطورة ربما لا نشعُر بها، ولا نُعيرها اهتمامنا كثيرًا، إنها نعمة الأمن والأمان، فيجبُ علينا إدراك قيمة هذه النِّعمة، وأنْ نتذكَّرها، وأنْ نعرف كيف نُحافظ عليها، وأنْ نحذر من أسباب زوالها، فهي نعمةٌ لا يُوجَد أعظم ولا أجلُّ منها إلاَّ نعمة واحدة هي (الإسلام).
حدثني الأخ صباح البوسني قائلاً: حججت مع حجاج البوسنة بالباص عام 2003، واستغرق السفر من سراييفو إلى المدينة المنورة تسعة أيام. ومعنا في الباص بوسنيان في الثمانينيات من العمر من قرية شريتشي بمحافظة زنيتسا، وقد أبلغني الحاج البوسني بقصة هذا الحج وما فيه من الغرابة والعجب والصبر والجلد فيقول:
أنا وزوجتي هذه تزوجنا وعمرنا عشرون سنة، والآن عمرنا ثمانون سنة، ومنذ تزوجنا وضعنا هدفاً في حياتنا قبل جمع المال وإنجاب العيال أن نسعى للحج، وأن نبذل له وقتنا جهدنا، رغم قلة ذات اليد، وسطو الشيوعية وبطشها على كل ما هو ديني، خاصة على المسلمين في بلاد يوغسلافيا -آنذاك-.
قمنا بزراعة البطاطا وبيعها حتى جمعنا خلال ستين سنة ما ييسر لنا الحج بالباص، نعم ستون عاماً كنا نأكل مما نزرع ونوفر المبلغ اليسير الدينار ونصف الدينار وربع الدينار (اليوغسلافي) نحفظ ما توافر وإن لم يتجاوز الريال لنحقق مطامحنا معاً.
ويواصل الحاج البوسني حديثه للأخ صباح وهو بين بكاء وفرح في الأراضي المقدسة: لقد رأيت البيت العتيق وصليت في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحينما جاءت حرب البوسنة وإبادة المسلمين، خشيت أن أتوفى ولم يتحقق أملي بالحج، ومنذ أن ركبنا الحافلة وفي كل موقع لا أستطيع أن أصف لكم كيف كان الزوجان في حالة من الشوق والبكاء، وكيف سجدا لله شكراً في مواقع كثيرة على ما امتن الله به عليهما من أداء فريضة الحج.
كانت بركة الرزق من الله عليهما عظيمة وإن صغرت في أعين الناس، فهذه البطاطا أطعمتهم من جوع في الرخاء والشدة، وكانت خير زاد لهما وللمجاهدين وأسر المسلمين إبان الحرب، ولاسيما في هذه القرية، وهي خير قرى البوسنة، وشبابها أبلوا بلاءً حسناً في دفع عدوان الصرب على المسلمين واستشهد الكثير منهم، وكل القرية تقرأ القرآن الكريم، وهذا من الفضائل العظام عند الأعاجم، ومما يشهد للقرية وأهلها في أيام الشيوعية أنها كانت تتبرع بجل الطعام للمعهد العلمي الشرعي الوحيد الموجود إبان الشيوعية.
ويعاود الحاج حديثه: لقد ذهب ما جمعناه سابقاً، وما إن وضعت الحرب أوزارها حتى عدنا للجمع والتوفير مرة، ولكن هذه المرة أصبحنا نجمع العملة البوسنية (المارك) فيسر الله لنا مرادنا، ولقد مد الله في أعمارنا فلله الفضل والمنة.
ويضيف الأخ صباح: إن قدمي الرجل تفطرتا من طول العمل ثم المشي في المشاعر طوال أيام الحج ولكن السعادة والفرح غلبت على الإرهاق والتعب، وكأنه وجد حلاوة الإيمان.
ستون عاماً بالتمام والكمال خالطها فقر وحرب وقسوة وجبروت وما ضعف الرجل، فكانت عزيمته قوية وإيمانه بالله أقوى وتحقق له الحج.
لقد حالت أزمة كورونا والوباء في أن ننقطع عن بيت الله الحرام والمسجد النبوي لبضعة أشهر للاحترازات الصحية، وهو أمر في صالحنا ولسلامتنا، فكان الوقع علينا كبيراً لأننا في شوق عظيم لبيت الله الحرام، فكيف بهذا المسلم الذي طال شوقه وامتد لما يزيد على الستين عاماً!!
إن لله سبحانه وتعالى ألطافاً بعباده تخفى عليهم، فيظنوها شرًّا وهي خير {وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
وكم من أمر جزع الناس منه وتبرموا فكانت عاقبته خيراً عظيماً، وحتى هذا الوباء النازل بالناس فيه منافع كثيرة، ومن منافع هذا الوباء: معرفة نعمة الله تعالى على العباد بحرية التنقل حيث شاءوا، ومتى أرادوا، وهي نعمة عظيمة غفل كثير من الناس عنها. فلما لزموا البيوت، وضرب عليهم حظر التجول؛ لئلا يتفشى الوباء في الناس؛ أدركوا قيمة هذه النعمة العظيمة التي كانوا يرتعون فيها ويقصرون في شكرها {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34].
اللهم إن بيتك العتيق قريب منا، وأنت أقرب إلينا من حبل الوريد، اللهم ارفع عنا الوباء وعن جميع المسلمين وبلادهم، اللهم عفوك ولطفك ورحمتك بعبادك المؤمنين.