الهادي التليلي
وأنا أتصحف المنصة الفيسبوكية الزرقاء صدمني خبر رحيل أستاذي ومعلمي محمد نجيب عبدالمولى. لم يكن الخبر عادياً فما بيني وبين الرجل الكثير من المحبة والكثير من الأسئلة المشتركة.. محمد نجيب عبدالمولى المفكر الموسوعي الذي يفاجئك بأن تتعلم منه في كل مجال تتحاور فيه معه. الرجل الذي كان معلماً وناشطاً سياسياً عانى السجن والتعذيب أيام كان الكلام في الحرية والحقوق المدنية في تونس مسألة فوق الكلام. محمد نجيب عبدالمولى المناضل الحقوقي ورئيس الجمعية التونسية للفلسفة لم يكن إنساناً عادياً كان دائرة معارف متنقلة ومدرسة في الموافق والعبر لا تتكرر..
من المؤسسين لتدريس مادة الفلسة والمشرفين على كتاب الفلسفة المدرسي. درس بالجامعة وحرص على أن يكون مختلفاً، تفنن في مهنة الإشراف العام لمادة الفلسفة بالبلاد واعتبر تدريس الفلسفة رسالته وقضيته الأولى. كان من مؤسسي المركز العربي لحقوق الإنسان وساهم في إدماج عدد هائل من الوجوه الشبابية التي طورت عمل المركز..
كانت صداقتنا التي غذاها التجاور السكني والاهتمامات المشتركة تلاق فكري عميق، وكان وجوده في مداري فرصة دائمة للتعلم ومراجعة ما تعلمته من هذه الحياة بعد أن خرجنا من دور المتعلم منه في صفوف الدراسة صرنا نلتقي دائماً في المشهد الثقافي لكوني كنت أعمل في مجال الإعلام الثقافي، كما كان وجودي في العمل بالمركب الثقافي محمد الجموسي فرصة للتلاقي في النشاط والأسئلة، وأول ما تم تعييني مديراً لدار الثقافة بالمهدية نظمت ندوة فكرية دعوت نخبة من رجال الفكر كان هو على طليعتهم وعند مغادرته أعلمني مسؤول الحسابات أن الباحث محمد نجيب عبدالمولى رفض استلام مكافأة المداخلة العلمية شعرت بحرج قلت في نفسي لعل المبلغ المالي أقل مما توقعه الرجل وعندما وصلت إليه قال لي لو كنت أعلم أنك أسندت لي مكافأة مالية ما كنت أتيت أنا جئت سنداً لك فلا تفسد حبي لك بالمال وقطع حديثنا مكالمة هاتفية وردته...
بعد أشهر من موقفه هذا علمت أنه أصبح رئيسًا لبلدية صفاقس الكبرى ولم تمر إلا أيام قليلاً حتى هاتفني سائلاً إن كنت بالمهدية أم صفاقس فقلت له في الطريق من المهدية إلى صفاقس قال لي بمجرد أن تصل كلمني.. وفعلاً عند وصولي مشارف المدينة وتحديداً في ساقية الزيت كلمته قال لي نلتقي في المكان الفلاني والذي هو يقسم المسافة نصفين، ساعتها كانت زوجتي حاملاً وأنا أستعد لإرسالها لألمانيا عند أهلها للعلاج والرعاية إلى حين الولادة وكانت تلك رغبتها فكان الفكر مشوشًا نوعًا ما مع حال الفوضى التي تعيشها البلاد ساعتها..
وصلت المكان المتفق عليه وبعدي بدقائق وصل أستاذي الذي أعلمني بأنه لم يكن فعلاً يطمح لمنصب رئيس بلدية ولكن بما أنه صار كذلك فيريد أن يقوم بتغيير هيكلي ومن بين ما يهمه الشأن الثقافي وعرض علي أن أكون مديرًا للمسرح البلدي الذي هو مؤسسة بلدية وهو عبارة عن مركب ثقافي يضم أكبر مسرح بالجهة وقتها، كما أن مهرجان المدينة وهو المنبر المهرجاني الثاني بعد مهرجان صفاقس الدولي وينشط المدينة في شهر رمضان يعتبر مرجع نظر بلدي.. في الحقيقة لم أقبل بالرغم من محبتي له وقدمت له تصورًا كاملاً لإدارة المؤسسة الثقافية البلدية أثارت إعجابه وبعد أيام أرسلتها له كخطة عمل.. وبقي تواصلنا بالفايس بوك منذ أن قدمت إلى السعودية وكانت له رغبة جامحة في الاستقرار بها، وذات يوم رن هاتفي وكان الرقم سعودياً والمفاجأة أن المتكلم كان أستاذي محمد نجيب عبدالمولى الذي قدم في سياق مهني للرياض لتقديم محاضرة أو شيء من هذا القبيل.. المهم قال لي بالعامية التونسية «جيت لتونس ومشربناش قهوة مع بعضنا قلت نشربوها في الرياض»، والمعروف عن أستاذي أنه النكتة كانت لا تفارق خطابه.. فقلت له حدد موقعك فقال لي الفندق الفلاني والتقينا وكان قد اغتنم الفرصة وأدى العمرة.. وخرجنا في شوارع الرياض الجميلة.. وبعدها كانت لقاءات متقطعة بين المسنجر والهاتف عندما أكون في تونس.. وكنت أحياناً أراه في التلفزيون كخبير في تطوير التعليم فتصيح مرام عمو نجيب صاحب بابا..
الآن رحلت يا صديقي وأستاذي ومعلمي ولك دين كبير بذمتي لم يتسن لي أن أعيد لك شيئاً مما أخذته منك. رحلت وقد تركت جبلاً من الكتب ستتحدث عنك للأجيال القادمة، وبحوثك التي أثريت بها مكتبة اليونسكو ستبقى شاهدة عليك، ونضالاتك الفكرية ستورث لمن بعدك، ونحن أحبتك لن ننسى أنك من علمتنا ونقشت فينا بذرة الفكر وحيرة الإبداع.. رحمك الله وأسكنك فردوس جنانه وجعل هذه الدموع التي انهمرت على لوح الكتابة وأنا أرقن ألمي على فراقك دعوات بالغفران والسكن مع الأبرار في الجنان.