في يوم الأربعاء العشرين من شهرِ صفر لعام 1442 هـ تلقيتُ نبأ وفاة العم عبدالله بن تركي العقلاء، كبير أسرتنا ووجيه بلدتنا، ذي الوجه البشوش والكرم العفويّ، ملتقى أهله ومحبيه وبني بلدته، في مجلسه اليومي المفتوحِ على مصراعيه، يستقبل فيه الجميع، لا يفرقُ بين صغير أو كبير أو غني أو فقير، يحرص على الضعيف وذي الحاجة ويقربهم منه، يضحكُ مع الصغير ويهشُ بالكبير ويُسامرُ هذا، ويسأل عن ذاك، ويتفقدُ الغائب، يزورُ المريض ويحضرُ الجنائز، ويصلحُ ذات البين، صاحبُ سفرةٍ ممدودة في الوجبات الثلاث، يحرصُ كُلَّ الحرص على أن يتواجد معه في سفرته من هم في حاجة إلى رأي أو مشورة أو حلِّ مُشكلةٍ يستطيعُ أن يُعالجها ويُحاولُ قدر استطاعته أن يُضمدَ الجِراح. ومع أنّ الفقيد مستور الحال إلا أن من يراه بما هو عليه يظن أنه غير ذلك، وبإنفاقه يتسعُ رزقه، وكأنّ الأول يعنيهِ بقوله: «لعمرك ما الرزية فقد مال، ولا شاة تموت ولا بعير، ولكن الرزية فقد شهم، يموت بموته خلق كثير». نعم وأيمُ الله أن بوفاة العم عبدالله بن تركي العقلاء، يموتُ معه خلقٌ كثير، موتًا معنويًا لا حسيًا، إذ محبيه كُثر والمحتاجين إليه كُثر ومُجالسيه في مجلسه العامر من أهل بلدته وغيرها خلقٌ كثير لاسيما الضعفاء والمساكين، ومن هم في حاجةٍ إلى مثل مجلسه، ومع إيماننا كل الإيمان ويقيننا كل اليقين بأن الموت حق وأنّ كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، «فكلّ ابن انثى وإن طالت سلامته، يوما على آلة حدباء محمول»، فأمثال العم عبدالله يُفتقدون إلا أنّ هذه سُنّة الحياة، فجعل ما قدمَ من ذكرٍ حسن، وخُلقٌ رفيع وذكرٍ طيّب رفعةً له ودعاءٌ يصاحبه، فإذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث.. صدقة جارية وولدٌ صالح يدعو له، ولقد خلّفَ بفضلٍ من الله أبناءَ سوف يحيون ذكره ويسيرون على نهجه، فجينات العم عبدالله حيةٌ لم تمت، فلا عجبًا أن يشبه الليث شبله وحقًا على ابن الصقر أن يشبه الصقرا، رزقه الله -سبحانه وتعالى- أبناءَ بررة، برّوا به، تراهم من حوله، ينظرون إليه، يتسابقون لخدمته، يعرفون نظراته وماذا يُريد، قلّما تجدهُ لوحده؛ إذ لا بُدّ أن يتواجد أحد الأبناء من حوله، يرقبهُ. كما رزقه الله بزوجةٍ صالحةٍ تطبعت بطبعه، فكانت نِعمَ العون له، وكان نِعم العون لها. انتقل إلى جوار ربه وهو عفيفُ اليد واللسان، إذا جئته ألفيته باشًا هاشًا، وكما قال الأول: «تراهُ إذا ما جْتَه مُتَهَلِّلا .. كأنَّك تُعطيه الذي أنتَ سائلُهْ». منحه الله -سبحانه وتعالى- خصالاً عدّة، فهو يسألُ عن الصغارِ من أقربائه، ولا يلحقهم شرهة أو لومٍ، رحم الله العم أبا تركي رحمةً واسعة، كُنت أزورهُ بين الحينِ والآخر؛ وذلك لظروف العمل التي كانت تمنعني عن زيارته، والقيامِ بالواجب نحوه، ومع ذلك لم أجد منه تبرمًا، وإنما دعواتٍ تسبق لسانه وكلماتٍ غايةٍ في اللطف. كنتُ من حوله منذُ أيامٍ قلائل، لم يدر بخُلدي أنّ ذلك العم الفاضل سيرحلُ عن دُنيانا؛ ولكن هو الموت لا بُد أن يكون، وكما قال الأول:
كيف البقاء وباب الموت مُنفتحًا
وليس يُغلق حتى ينفذُ البشرُ
نعم، إذا المنية أنشبت أظفارها؛ ألفيتَ كل وسيلة لا تنفعُ وإلا وأيمُ الله لافتدينا العمُ بكلِّ ما يُمكن الفداءُ به لمآثره وخصاله الحميدة. في يوم جنازته، حضر المشيعون، وضاقت المقبرةُ بُمحبيه ومريديه، بكى عليه الصغيرُ والكبير، بكته النساء وحزن عليه الجميع؛ ولكن لا نقول إلا إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يُرضي الرب، وإنا عليك أيها العم الأكرم لمحزونون.
رحم الله العم الوالد أبا تركي ورفع درجاته في عليين وألحقه في أهله في الغابرين، و(إنا لله وإنا إليه راجعون)، وعزاؤنا لأبنائه وبناته الكرام البررة، ولأهل بلدته ولمحبيه ومجالسيه وأرحامه.
** **
- عبدالعزيز بن علي العقلاء