خالد محمد الدوس
فقدت الحركة الرياضية بالمملكة أحد رموزها الكبار، ورجالها الأوفياء،.. ممن خدموا مسيرتها التاريخية بكل عطاء وإثراء ووفاء.. وساهموا بتضحياتهم الكبيرة وخدماتهم الجليلة وبصماتهم الخالدة في إرساء دعائم (البناء الرياضي) المتينة, والنهوض بمكوناته.. في حقبة كانت الرياضة محاربة اجتماعيًا وفكريًا وثقافيًا.. غير أن هذه المعوقات وإرهاصاتها لم تقف (حاجزًا) أمام هؤلاء الرواد في استكمال مشروع البناء والتأسيس للحركة الرياضية في مملكتنا الغالية على أرضية صلبة.
ومن هذه الشخصيات الريادية التاريخية العصامية الشيخ صالح القاضي الذي وفاه الأجل يوم الأربعاء الماضي بعد معاناته مع المرض عن عمر يناهز التسعين عامًا تغمده الله بواسع رحمته.
عاصر -رحمه الله- مسيرة الحركة الرياضية بالمنطقة الوسطى قبل أكثر من 60 عامًا, وتحديدًا منذ أوائل عقد السبعينيات الهجرية عندما لعب لأهلي الرياض (الرياض حاليًا), حتى عام 1376هـ مع أول جيل أبرزهم عبدالرحمن الموزان ومحمد بن رويشد وعبدالعزيز بن عسكر ومحمد بن سميح وراشد مطرف وعبدالرحمن العليق، وكان يترأس الفريق آنذاك الشيخ عبدالله الزير -رحمه الله - الذي تبنى الفريق ودعمه بالكور والملابس وأمور الصرف.. ومن حبه للرياضة تبرع ببيته ليكون أول مقر لأهلي الرياض ثم انضم لأول مجلس إدارة شكل رسميًا للنادي العاصمي عام 1381هـ برئاسة محمد الصائغ -رحمه الله-, وبعد انتقاله لوزارة العمل والشئون الاجتماعية في أوائل الثمانينيات الهجرية، رشح لإدارة رعاية الشباب عام 1385هـ، وساهم في صياغة وتنظيم العمل في القطاع الشبابي والرياضي على أسس متينة.
فبعد تخرجه من المعهد العلمي الثانوي سافر إلى مكة المكرمة والتحق بكلية الشريعة بجامعة أم القرى وأنهى دراسته الجامعية بحصوله على شهادة البكالوريوس تخصص شريعة عام 1379هـ ، وفي الموسم الذي يليه صدر قرار تعيينه مدرسًا في مدرسة عنيزة الثانوية في منطقة القصيم، وبعد ثمانية أشهر عين مديرًا لثانوية اليمامة بالرياض (أول ثانوية بالعاصمة) وعمره لم يتجاوز 23 سنة..!!
ففي عام 1382هـ انتقلت اللجنة الرياضية العليا من وزارة المعارف إلى وزارة العمل والشؤون الاجتماعية وتحويل مسمى النشاط الرياضي (إدارة رعاية الشباب) وتولى إدارتها د. عبدالله العبادي -رحمه الله- ، وانتقل صالح القاضي للعمل في وزارة العمل والشئون الاجتماعية ورشحه معالي الوزير آنذاك عبدالرحمن أبا الخيل مديرًا لرعاية الشباب عام 1385/ 1386 ، فكان من القياديين البارزين في دعم العمل الرياضي المؤسسي والحركة التنظيمية للأندية في تلك الأيام الخوالي بدعم قوي ومباشر من الوزير الرياضي أبا الخيل.
تشرفت بمعرفة الرمز الراحل (صالح القاضي) -رحمه الله- إبان عملي مع صحيفة «الجزيرة»، واهتمامي بالتاريخ الرياضي، وكنت أول من أجرى مع (فقيد التاريخ الرياضي) لقاءه الشمولي الأول متحدثًا عن مسيرته الرياضية والثقافية والتعليمية والاجتماعية، وكنت محظوظًا بأن أقرأ شيئًا من تاريخنا الرياضي من مصادره الأولية والراسخين في الفهم والعلم, وكان (أبو أحمد) -غفر الله له- مرجعًا تاريخيًّا ثريًّا, ومخزونًا ثقافيًّا أصيلاً، يحتفظ بمعلومات رياضية وأرشيف وحقائق كروية، عمرها أكثر من ستين عامًا؛ وبالتالي استفدت منه كثيرًا في نشر هذه الحقائق التاريخية الدامغة ومعطياتها هنا عبر «الجزيرة».
كان (فقيدنا الغالي) يتمتع بشخصية اجتماعية وثقافية ورياضية متزنة، تجمع القيم الأخلاقية، والتواضع الجم, والابتسامة العفوية, والوعي الرياضي، وطيب المعدن, وحسن الأدب، والثقافة العالية, ونقاء القلب الذي أكسبه حب الرياضيين القدماء الرؤساء والإعلاميين والمثقفين الذين عاصروا مسيرته الرياضية والثقافية وحتى التعليمية.
رحم الله الإنسان (صالح القاضي)؛ فقد عاش عصاميًّا مكافحًا من أجل خدمة رياضة الوطن في بداياتها.. فكان من الأرقام المهمة في مسيرة البناء الرياضي قبل ما ينيف على نصف قرن من الزمن, ورحل صابرًا على حالته المرضية محتسبًا بكل إيمان وعزم وثبات, تاركًا سيرته النيّرة وسمعته العطرة محفورة في الذاكرة الرياضية وأخاديد الزمن -تغمده الله بواسع رحمته-.
خالص العزاء لأسرة الراحل وشقيقه عبدالرحمن، سائلاً الله العلي القدير أن يغفر له ويسكنه فسيح جناته.
{إنا لله وإنا إليه راجعون}.