د.خالد بن محمد اليوسف
عندما يتصدر شاشة التلفاز خبير محنَّك فإن المتلقي ليس أمامه إلا أن يتسمَّر أمامها، وينصت لكل الكلمات، لتسيطر تقاليد تلقي مثل هذه اللقاءات على كل من يتابعها، ويزداد ذلك إذا كان المتحدث من أرباب السياسة والخبرة والحكمة.
جرت العادة ألا يلامس حديث السياسة نياط القلب، حينما يصدر الحديث من العقل فقط، ولكن أن يصدر من العقل ومخضّبًا بكل محبة وإخلاص! عندئذٍ فإنه سيدخل إلى القلب دون استئذان، أما إن كان الكلام مجردًا من الصدق والإخلاص فسيكون عبئًا على صاحبه، ولن يتجاوز الآذان، ليكون في حكم النسيان.
حينما تتكلم الحقائق وتُنقل الوقائع كما حدثت ويُستشهد لإثباتها بالأحياء فاعلم أن القائل قد برَّ وصدق، وحينما يُتَكلم الكذب وتزوَّر الوقائع ويُستشهد لإثباتها بالأموات فأعلم أن القائل قد فجر وكذب!
عندما تريد أن ترى الصورة كما هي فأسأل عن الرسام الماهر صاحب الشعور الصادق، وحينما تريد أن ترى الصورة المحرَّفة فأسأل عن الثمن الذي دُفع، والضمير الذي بِيع!
هكذا علمتنا التجارب.. لذا فلن نشرب من المستنقعات إلا الكدر والطين، ولن نشرب من الأنهار إلا الماء الزلال.
أجزم أن جميع الشاشات العربية توقفت متابعتها عندما بثَّت قناة العربية حديث البندر السلطاني، فتسلطن بندر، وتسلطنت القناة، وتسلطنت الحقيقة، ناصعة جلية فظهر سلطان الحق البندري وزهق صوت الباطل العباسي.
السعوديون طيبون، يحبون الآخرين، ويسعون في أي مصلحة تحقق الخير والنماء والاستقرار للشعوب، فكيف لو كان ذلك الشعب هو الشعب الفلسطيني صاحب القضية العادلة والصادقة.
لا نشك لحظة واحدة أن السعودية والسعوديين سينصرون الشعب الفلسطيني وينصرون القضية الفلسطينية ولو على حساب مصالحهم الخاصة، وقفت السعودية وستقف مع الحق والعدل أيًا كان فكيف بفلسطين وأهل فلسطين.
هذا الأمر يجب أن لا يشك فيه الإنسان أيًّا كان فضلاً عن الإنسان المسلم، لقد دفعت السعودية الدم قبل السلاح، والمال والجاه والسلطان لنصر القضية الفلسطينية، ففي كل محفل دولي ومع كل مسؤول أممي وفي كل اجتماع إقليمي تبدأ السعودية بسم الله أولاً ثم بفلسطين، كل هذه الأمور في درجة العلم اليقيني لدى الشعب السعودي.
ولم ينس السعوديون ولا التاريخ ولن ينسون تلك الكلمة الخالدة التي تسطر بماء الذهب التاريخي لصاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز -رحمه الله- أثناء حضوره مناسبة مرور أربعين عامًا على تأسيس هيئة الأمم المتحدة عندما قال: (غير أن اهتمامنا بهذه المناسبة لا يقتصر على ذلك فحسب، فإن المملكة العربية السعودية وهي تدين بالدين الإسلامي تضطلع بدور دولي متميز لأن سياستها الخارجية تسير على أساس أن المبادئ الأساسية التي ارتكزت عليها هذه المنظمة والأهداف النبيلة التي من أجلها وُضع ميثاقها فيها تأكيد لما تقرره الشريعة الإسلامية من تنظيم للعلاقات بين الدول، فرسالة الإسلام الخالدة توحِّد ولا تفرِّق، تعدل ولا تظلم، تساوي ولا تميز، تحث على العمل والتعاون....)
وفي ختام هذه الكلمة قال سموه -رحمه الله-: ( وهي فرصة ثمينة لكي تتضافر جهود كافة أعضاء المجتمع الدولي في بناء عالم قوامه صدق النية وتحكيم المبادئ والأخلاقيات بدلاً من تغليب القوة والقهر حتى يسود السلام وتزول سياسات الصراع والحروب فتسوى المنازعات بالحسنى وتجري العلاقات بوجه بناء ونافع... ).
هذه سياسة المملكة العربية السعودية الدولية مع جميع الدول والشعوب تعلنها في أهم محفل عالمي وفي جميع القضايا والنزاعات والصراعات والحروب في المجتمع الدولي، فكيف بالقضية الفلسطينية التي كانت حجر الزاوية في جميع التحركات الدولية السعودية.
لكن الصدمة؟!
كل الصدمة أن تتفاجأ بأن هذه القضية ضاعت وخسرت وتناقصت في الرصيد الدولي بسب المسؤولين الفلسطينيين، فرص كثيرة ضاعت، سعت فيها المملكة العربية السعودية لمصلحة فلسطين الدولة، وفلسطين الشعب، إلا أن المسؤول الفلسطيني عطَّلها!
أهي مرة واحدة، أم مرات عدة؟!
لا بل أكثر وأكثر وأكثر، بشهادة الزمان وشهادة أهل ذلك الزمان مع شاهد الحدث والزمان بندر بن سلطان.
الحقيقة مرة لكن يجب أن يعرفها المواطن السعودي والعربي، فالمسؤول الفلسطيني هو من أضاع قضية شعبه وحلم دولته،
أما السعودية فقد نصرت القضية وسعت لتحقيق الحلم الفلسطيني لكن المسؤول الفلسطيني أبى وكابر وتكبَّر!
غريب جدًا ما يحدث!
الأموال والدبلوماسية السعودية لم تتأخر عن نصرة فلسطين، والشعب الفلسطيني، والمسؤولون السعوديون أرهقوا أنفسهم لنصر القضية الفلسطينية، وسخروا كل إمكاناتهم لتذليل كل صعب حتى وصل الأمر لجمع المسؤولين الفرقاء من بني فلسطين ليتعاهدوا عند بيت الله الحرام، وما أن ارتحلوا ولما يجف حبر الأوراق حتى نقضوا العهد والميثاق وتنازعوا واختلفوا!
بل وصل الأمر بأن يستأثر القائد المناضل على الطائرة الخاصة لسمو الأمير السفير ليطوف بها الكرة الأرضية!
في وقت وصل أيضاً أن جاهد سمو الأمير السفير بحزم وقوة وفي وقت عصيب وسريع بأن تبقى الكوفية الفلسطينية رمزًا للإنسان الفلسطيني حاضرة في الاجتماعات الأممية برعاية أقوى دولتين في حينه أمريكا والاتحاد السوفيتي، بل وصل أيضاً بأن يقطع سمو الأمير السفير إجازته الخاصة مع أهله وأولاده ليوفر الدعم اللازم لاتفاق تاريخي لمصلحة فلسطين! لكن المسؤول الفلسطيني أهدر هذه الفرصة وأضاع الهدف.
يقول سمو الأمير السفير: حينها رغبت أن أبكي وأبكي...
أحيانًا ترهق نفسك وقلبك وبدنك في بذل النصح للآخرين ولكن الآخرين يضيِّعون الفرص ويهدرون الوقت ويستخفون بالأمر.
السياسة صعبة، والدبلوماسية عذاب!
والمسؤولية حمل ثقيل!
لذلك أدرك بندر بن سلطان وصارحنا بأن الشيب في ملامحه سببه سياسة المسؤول الفلسطيني الجاهل أو المكابر أو الغبي المتذاكي.
ما أصعب الشيب إذا غزا الملامح سياسياً وما أصدق صاحبه وما أكذب من كان سببًا فيه!
الصندوق الأسود يخبرنا بأنه قد جاء الوقت لكل دولة أن ترعى مصالحها أولاً، أن تحافظ على أمنها القومي أولاً، أن تسعى في رفاهية شعبها أولاً.
وأن تتعاون مع جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة أيًا كانوا بما يحقق هذه الأولويات.
أما القضية الفلسطينية فإلى أن يتهيأ لها مسؤولون صادقون أمينون يقدِّرون وقفة الأخ ونصح الصادق وإخلاص المسؤول السعودي لهم وتقديم مصالحهم ولو كانت على حساب المصلحة السعودية الخاصة... إلى أن يتهيأ هذا المسؤول سيجد بأن المملكة العربية السعودية أول الداعمين الصادقين المخلصين في كل صغيرة سياسية أو كبيرة.
أخيراً
أختم بهذه المقولة المخلصة الصادقة التي سيسجلها التاريخ أيضاً والتي صدرت من قلب بندر بن سلطان، وذلك عندما فاتت أحد الفرص المهمة لقيام دولة فلسطينية وتحقيق رفاهية شعب عانى كثيراً من الحروب والصراعات.
يقول سموه بعدما تلقى مكالمة الرئيس الأمريكي بفوات هذه الفرصة التاريخية بعد مخاض عسير وحوارات ومفاوضات واقتناع جميع الأطراف ثم تراجع المسؤول الفلسطيني في اللحظة الأخيرة عن فرصة لاحت لتحقيق حلم الدولة ورفاهية الشعب الفلسطيني.
يقول بعبارات بسيطة صادقة ومؤثرة: (بغيت أبكي... كان قلبي يحترق.. كيف ضاعت الفرصة مرة ثانية.. ويمكن تكون مرة أخيرة... وأفكر كأني أرى شريط فيديو أمام عيني فرصة تأتي وفرصة تضيع... وبعد ما تضيع الفرصة نوافق على اللي رفضناه... ونجيء نضعه على الطاولة... يقولون الناس ما فيه شيء على الطاولة... وهلم جرًا تكرار تكرار....).
أقول يا سمو الأمير الدبلوماسي الخبير: المسؤول الفلسطيني الآن ليس فقط لم يجد شيئاً على الطاولة بل أضاع الطاولة كلها.