حمّاد بن حامد السالمي
* من منكم حاول ولو مرة واحدة؛ التمرد على أحكام (وباء كورونا)؛ فنزع الكمّامة، وصافح وجالس وحادث آلاف الناس في مكان واحد مرات ومرات..؟
* أنا -ولا فخر- فعلت هذا. اقترفت هذه الفضيلة؛ وأنا بكامل قواي العقلية، فسامرت وتسامرت مع آلاف الفلاسفة والأدباء والشعراء والمؤرخين في مكان واحد، وما زلت أفعل كل يوم وليلة، نلتقي على مائدة من نتاج العقول الأدبية والشعرية واللغوية والفلسفية، مما هو حبيس كتبهم ومدوناتهم في قديم الدهر ووسيطه وحديثه.
* هذه صورة مبسطة مما جاء في واحدة من هذه المسامرات؛ فقد كان كل من على رفوف المكتبة؛ يشكو الزمان الذي باعد بينه وبين العقل البشري المعاصر، الذي أخذ يبتعد عنه شيئًا فشيئًا. فكأن الحال اليوم كما صوره أحمد شوقي يوم قال:
أُغالبُ فيك الشوقَ والشوقُ أغلبُ
وأعجبُ من ذا (الهجرِ) والوَصلُ أعجبُ
* سادت علينا فكرة الكتاب والمكتبة والقراءة؛ فتذكرنا في البدء قول أحد العقلاء: (صَحِبتُ الناس فملّوني ومللتهم، وصحبت الكتاب فما مللته ولا ملّني). ثم رددنا قول المتنبي:
أعز مكانٍ في الدّنى سرج سابحٍ
وخير جليسٍ في الزمان كتابُ
وسرعان ما تدخل مصطفى صادق الرافعي فقال:
ودولة السيف لا تقوى دعامتها
ما لم تكن حالفتها دولة الكتب
ثم قال نعمة الحاج في هذا المعنى:
يا كتابي وأنت خير مسلٍّ
ان عدمت السلو عند طِلابي
أنت خير صاحب وصديق
إن جفاني في وقت ضيق صحابي
* من جانب آخر؛ يقف أمير الشعراء أحمد شوقي فيقول قصيدة عصماء في الكتب والكتاب؛ نكتفي منها بواسطة عقدها حيث قال:
أَنا مَن بَدَّلَ بِالكُتبِ الصِّحابا
لَم أَجِد لي وافِياً إِلّا الكِتابا
صاحِبٌ إِن عِبتَهُ أَو لَم تَعِب
لَيسَ بِالواجِدِ لِلصاحِبِ عابا
كُلَّما أَخلَقتُهُ جَدَّدَني
وَكَساني مِن حِلى الفَضلِ ثِيابا
صُحبَةٌ لَم أَشكُ مِنها ريبَةً
وَوِدادٌ لَم يُكَلِّفني عِتابا
* بعد ذلك؛ تصدر للكلام الفيلسوف الصيني (كونفوشيوس) من القرن الأول قبل الميلاد؛ محببًا في قراءة الكتب وقال: (مهما كنت تعتقد أنك مشغول، لا بدّ أن تجد وقتًا للقراءة، وإلا سلّم نفسك للجهل الذي قضيت به على نفسك). وبسرعة فائقة؛ انبرى له رجل الأعمال المبرمج (بيل غيتس)، صاحب شركة (ميكروسوفت) من القرن العشرين وقال: (أعطتني القراءة عذرًا مقبولًا لعزلتي، بل ربما أعطت مغزىً لتلك العزلة المفروضة عليّ. حقاً كان لدي الكثير من الأحلام عندما كنت طفلاً، وأعتقد أن هذا مرده بقدر كبير إلى كوني كنت أقرأ كثيرًا. القراءة الرقمية سوف تنتشر. إنها خفيفة ورائعة للمشاركة. مع مرور الوقت؛ سوف تصبح القراءة المسيطرة).
* وجدت نفسي أستمع فقط لما يدور من نقاش يختزل المسافات، ويقرب بين الأزمنة والأمكنة. قام الفيلسوف (فرانسيس بيكون) من القرن السابع عشر وقال: (القراءة تصنع إنسانًا كاملاً، والمشورة تصنع إنسانًا مستعدًا، والكتابة تصنع إنسانًا دقيقًا). ومن بعده بقرن واحد؛ يبرز لنا فيلسوف آخر هو: (مونتيسكيو) ليقول: (لم يصبني حزن ما؛ إلا وانتشلتني منه القراءة). أما الكاتبة (فرجينيا وولف) من القرن التاسع عشر؛ فشاركت وقالت: (أنا في أشد الحاجة للعُزلة. أحتاجُ بأن أشعُر بانتمائي لنفسي. مؤخراً بدأت أقتنع تمامًا بأن القراءة هي حياتي الأُخرى السرية، وملجئي الشخصي الذي أهرب إليه دائمًا).
* قلت: أين هم الأدباء والفلاسفة المعاصرون، وخاصة العرب منهم..؟ فجأة؛ نهض من بين الرفوف الأديب (أنيس منصور) وقال: (علمتني القراءة حب الهدوء والتواضع الشديد في حضرة الذين يعرفون أكثر، ويقولون أجمل وأطول وأعم). القراءة معناها: أن تفكر برأس غيرك. وكان بجواره الأديب: (مصطفى صادق الرافعي) الذي قال: (ليكن غرضك من القراءة اكتساب قريحة مستقلة، وفكر واسع، وملكة تقوى على الابتكار، فكل كتاب يرمي إلى إحدى هذه الثلاث فاقرأه).
* وارتفع صوت أديب ومفكر معاصر هو (عباس محمود العقاد) الذي قال: (لست أهوى القراءة لأكتب؛ ولا لأزداد عمراً في تقدير الحساب، إنما أهوى القراءة لأن لي في هذه الدنيا حياة واحدة، وحياة واحدة لا تكفيني. القراءة وحدها هي التي تعطي الإنسان الواحد أكثر من حياة واحدة، لأنها تزيد هذه الحياة عمقًا. فكرتك أنت فكرة واحدة. شعورك أنت شعور واحد. خيالك أنت خيال فرد واحد إذا قصرته عليك، ولكنك إذا لاقيت بفكرتك فكرة أخرى، ولاقيت بشعورك شعوراً آخر، ولاقيت بخيالك خيال غيرك، فليس قصارى الأمر أن الفكرة تصبح فكرتين، وأن الشعور يصبح شعورين، وأن الخيال يصبح خيالين. كلا.. وإنما تصبح الفكرة بهذا التلاقي مئات الفكر في القوة والعمق والامتداد). يا سلام يا عمنا عقاد. ثم قال بعد أن حملق فينا جميعًا: (إنَّني لا أتمنى أن أصل إلى سن المئة كما يتمنى غيري، وإنما أتمنى أن تنتهي حياتي عندما تنتهي قدرتي على الكتابة والقراءة. القراءة ليست من الكماليات أو شيء للرفاهية، بل هي فريضة إسلامية. ألم تسمعوا قوله تعالى: (اقرأ).. هذا أمر..!
* لم نكد نختم مسامرتنا الأدبية؛ حتى ارتفع صوت (ابن جني) صاحب كتاب: (الخصائص)، وهو يشير إلي بإصبعه حانقًا ويقول: إلى متى وأنا على رف مكتبتك مبتورًا من جزئي الثاني..؟ ألم تقرأ قول الشاعر جابر الكاظمي:
ألا يا مستعير الكتب أقصر
فإنَّ إعارتي للكتب عارُ
فمحبوبي من الدنيا كتابٌ
وهل أبصرتَ محبوباً يُعارُ..؟!
* أفحمني هذا (الجني)؛ فحرت في الرد عليه. كل ما أذكره؛ أن أحدهم استعار مني هذا الجزء منذ سنوات فما رده. نسيت من هو.
* في ختام المسامرة قلت -ولعل من هؤلاء الصحبة متقدمين ومتأخرين من يؤيدني فيما قلت- قلت: (أنا أقرأ إذن أنا موجود. أنا موجود إذن أنا أقرأ).