الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
تشريعات الله تعالى في دين الإسلام تهدف إلى جعل المجتمع المسلم يترابط أفراده فيه برباط متين من التعاطف والتواد والتراحم والتلاحم، وينهى الإسلام عن أذية الآخرين، ومن الأذية الغيبة التي تعد من كبائر الذنوب والمعاصي، ولا يزال بعض الناس يقعون فيها وهم لا يشعرون، وخطورتها أنها تأكل الحسنات، وتقسي القلب، وهي من أعظم الموبقات وأقبح المنكرات.
«الجزيرة» التقت اثنين من المتخصصين الشرعيين، لمعرفة العلاج المناسب لمثل هذا السلوك المشين.
أقبح القبائح
يقول الدكتور عبدالله بن محمد الجارالله، الطبيب الاستشاري، وأستاذ الدراسات القرآنية في المسجد النبوي الشريف إن (النفس) البشرية تكره الذم, حيث فطرها الخالق -جلَّ شأنه- على أن تكون كريمة عزيزة, وتسعى (النفس) إلى أن تكون سالمة من الشين والعيب, كما أنها لا تطيق الانتقاد؛ وحتى في خضوعها لخالقها فإنها لا تسلم من الخطأ والانحراف؛ لِمَا يوجد من النقص والضعف في أصل تركيبها. ومواجهة خطأ النفس وعيبها لا تكون بالفضيحة والتشهير. بل بالرفق والخصوصية والإسرار في التوجيه والإرشاد.
ومن هنا كانت (الغيبة) من أقبح القبائح, حيث إنَّ فعلها يأكل الحسنات, ويذهب بالمروءات, ثمَّ هي معدودة في الدين من الكبائر؛ جاء التحذير منها والوعيد الشديد على فعلها صريح القرآن وبيان السنة, ومجموع كلام السلف, وإجماع عقلاء البشر. فهي سلوك مشين؛ لا يليق بالشهامة, وأخوة الإيمان.
ومع ما فيها من الشناعة وإجماع الناس على ردِّها ورداءتها إلَّا أنه قد عمَّ انتشارها بين الخلق؛ حتى كاد لا يسلم منها إلا القليل؛ بل ربما وجدت طالب العلم أو من ينتسب إلى العلماء واقع في ذلك أو شيء منه؛ من قريب أو بعيد.
و(الغيبة), قد جاء التنزيل العزيز من الله -عزَّ وجلَّ-؛ بالنهي عنها وذمِّها, وتشبيه فاعلها؛ بمثلٍ لا يخطر على بال؛ وبصورة بالغة القسوة لا يقدر على فعلها إنسان؛ حيث قال الله تعالى: (ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه), ثم جاء النصُّ الشريف عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- بتعريفها كأوضح ما يكون البيان, فلا يبقى عذرٌ لإنسان؛ حيث قال -صلى الله عليه وسلم-: «أتدرون ما الغيبة قالوا الله ورسوله أعلم قال ذكرك أخاك بما يكره قيل وإن كان في أخي ما أقول قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته». وكما تحرم (الغيبة) على المغتاب فكذلك يحرم على السامع استماعها وإقرارها؛ بل يجب عليه عدم الرضا ولزوم الإنكار؛ فإن عجز عن ذلك, فلا أقل من مفارقة المجلس وعدم المكوث في المكان. ولقد أثبتت الدراسات الطبية على أنَّ للغيبة أثرًا سلبياً على صحة المغتاب؛ حيث تؤدي إلى إفراز هرمون (الكورتيزون) الذي يُطلق عليه هرمون التوتر؛ وذلك نظراً لأن الغيبة فكرة سلبية تورث الهم وانشغال الذهن, وربما تؤدي إلى الحقد وروح الانتقام. وزيادة هرمون التوتر يؤدي -إفرازه المرضيّ- إلى إضعاف جهاز المناعة؛ مما يجعل الجسم عرضة للعديد من الأمراض, مع ما يسببه من هشاشة العظام.
إني لمشفق على رجلٍ تورمت قدماه من طول الصلاة والقيام, ونحل جسمه من كثرة الصيام, وأنفق ماله في وجوه البر والإحسان, ثم يأتي يوم القيامة فلا يجد ثواب ما صلَّى وصام وأنفق وقام؛ لأنه قد شتم هذا, واغتاب هذا, وخاض في عرض هذا, حتى صار من المفلسين.
ثمَّ إني لأقف -أمام مجموع النصوص الصريحة في القرآن والسنة على تحريم الغيبة- مذهولاً متعجباً لأمر الإنسان؛ على تجاهل هذه الأوامر, وإهمال النواهي؛ المتعلقة بهذا الأمر العظيم. فيا من تترك العنان لنفسك لتتكلم في أعراض الناس؛ ألا ذكرتها بالوعيد الشديد في سورة الحجرات: وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ . ويا من تخوض في حقوق العباد؛ أمَّا اطلعت على سورة (قاف) وما فيها من التحذير والتهديد: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}, ويا من أغرق وقته واشتغل في نقد هذا وتجريح ذاك؛ ألَّا استحضرت الحديث الصحيح الصريح عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: «من كانت لأخيه مظلمة في عرض أو مال فليستحلها منه قبل أن يأتي يوم ليس هناك دينار ولا درهم؛ إنما يؤخذ من حسناته, فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فزيدت من سيئاته», فما هذا التصريح من مقام النبوة؛ وقبله النهي الصريح من كلام الله -عزَّ وجلَّ- إلَّا تأكيدٌ على عظيم حق الأخ على أخيه, كما أنه نذير وإنذار؛ فإلى كل مسلم يخاف مقام الله؛ الوحا الوحا, النجا النجا, ولم يبق إلَّا التصديق والامتثال؛ فهل نحن فاعلون.
تهذيب النفس
وتبدأ الأستاذة الدكتورة هدى بنت دليجان الدليجان، الأكاديمية والباحثة بجامعة الملك فيصل، حديثها بقول الله تعالى: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ (12) سورة الحجرات.
أي نهي أعظم من هذا التشديد والزاجر القرآني الكريم في تهذيب النفس الإنسانية، والدعوة إلى تحقيق ومقاربة الإنسانية الأنيقة التي فضلها الله الحكيم ومنع من أكل لحم الإنسان!
فكيف يستساغ أن يأكل الإنسان لحم (أخيه) وزيادة في التقريع والزجر وصفه (ميتاً).
فإذا كان الإنسان لا يستسيغ بأي حال من الأحوال أن يأكل لحم (الميتة) لضررها على الإنسان ومخالفة الطباع الغريزية فكيف سينهش لحم أخيه ميتاً.(فكرهتموه)، (الكراهة والتقزز) هذا أعظم وصف بليغ ورادع عنيف لتوصيف المشاعر الإنسانية، ولو مر الإنسان على ثلاجة الموتى في المستشفيات أو المقابر لمضى سريعاً من الإجلال واحترام كرامة الموتى فهل يليق أن يمضي المسلم في نهش لحم أخيه ميتاً على مائدته ويتمطط به فكاه ولسانه.
هذا هو الوصف القرآني لهذه الكبيرة الشنيعة لاحترام غيبة الناس وصيانتها من الابتذال والطعون سواء في أقوال الناس وأفعالهم.
ومع الأسف انتشار هذا الداء بين الناس في مجالسهم وأماكن أعمالهم ومنتدياتهم الافتراضية دلالة على ضعف الوازع الديني في الالتزام بمثل هذه الزواجر والمنهيات، وغياب الوعي الاجتماعي بضرر الغيبة بين أفراد المجتمع، بل هي كالنار تبدأ بالشرر وتكبر حتى تأكل الأخضر واليابس من الحسنات بين الأرحام والصداقات الوفية والعلاقات الطيبة، ولو استعاد الناس بريق معدن الوفاء من مخازن القلوب لكف المسلم عن نهش لحم أخيه الميت الذي يتسلى به ويقطع وقته بالانقضاض على لحمه وهو ميت لا يمكنه الحراك والدفاع.
فحري بالمؤمن أن يكون هذا الوصف بين عينيه ويستشعر ضرره وشناعته وينتهي أن تكون مجالسه موائد يعرض فيها لحوم إخوانه وهم ميتون ولو كانت في أوانٍ لامعة وبمقاصد تلطيف الأجواء ونوايا الإصلاح والدعاء بالعافية.
وفي المقابل على من سلم لسانه ومجلسه ومواقعه الافتراضية من هذا الداء وعظم حق أخيه المسلم وحفظ غيبته ونصره ونهى عن الوقوع في لحم إخوانه فقد فاز فوزاً عظيماً، ومن وقع في هذا الداء عليه التوبة {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ، فما أجمل التوبة والعودة إلى ملكوت الله والسمع والطاعة لأمره ونهيه.