عبدالرحمن الدخيل
حسب دراسة نُشرت عام 2010 أجراها باحثون في جامعة أوكسفورد عن تاريخ الملابس مع البشر وبدء استخدامها، تم البحث بالاستعانة بتاريخ قمل الملابس -لأن الأقمشة والجلود لا تبقى كآثار وحفريات- ورجحوا أنه بدأ ارتداء الملبس بفترة ما بين 83 ألف عام و170 ألف عام، لأسباب عدة منها: العصر الجليدي والحاجة للدفء، أو قد تكون لستر العورات وغيرها من الأسباب.
لكن سؤالنا الجوهري هو: لماذا لا نكتفي بذلك؟ لماذا نلبس ملابس جميلة ونراها جميلة؟ لماذا لا نتوفّق عند الستر والدفء؟
مولد الأزياء لأجل الجمال (الموضة): من أهم المصادر لمؤرِّخي الأزياء Venus of Willendorf تعد بالتحديد بعد التركيز على شكل رأسها؛ فهو يحوي احتمالين:
الأول: أنها تصفيفة شعر؛ وهذا يدل على اهتمام بالمظهر لأجل الجمال.
الثاني: أنها قبعة وهذا احتمال مهم جداً؛ كونه يعني وجود مهارات حياكة منذ أكثر من 30 ألف عام.
مثال آخر أوضح هو تمثال يعود لـ25 ألف عام يُسمى بـVenus of Brassempouy فهو يعود لنفس الاحتمالين السابقة لكنه يميل أكثر لأن يكون قبعة ويوضح الشكل المجاور ما قد تعكسه هذه القبعة.
فبعد معاينة المثالين السابقين يمكننا القول بثقة إن مولد الموضة يعود لأكثر من 30 ألف عام.
مثال أخير: أثناء وجود الثقافة القرافيتية في أوروبا قبل 35 إلى 22 ألف عام، أحد أهم اكتشافتها الأثرية ما يُسمى بـ»الأمير» أو «الأمير القرافيتي»، ويعتبر مصدر علمي عظيم لمؤرِّخي الأزياء لأنه بطبيعة الأمر كل الجلود والأقمشة تحلَّلت عبر القرون، لكن ما يُستفاد منه هو أنه بقيت الأصداف والأسنان في مكانها، مما مكَّن علماء الآثار ومؤرِّخي الأزياء من تخيل ما كان يلبسه الأمير بناءً على أماكنها، ويلاحظ دون أدنى شك الاهتمام بالمظهر العام للملبس وليس فقط الفاعلية بأن تكون للستر والدفء، فلا يوجد أي عذر للشعوب القرافيتية بأن يقضوا أوقاتاً طويلة في حياكة وخياطة الكم الهائل من الأصداف والأسنان بتنسيق ثابت ونمط مريح للعين سوى أن دوافعهم كانت جمالية.
كما أنها تعكس أيضاً أهمية أخرى وهي الحالة الاجتماعية لمرتدي اللباس، فأصدقاء الأمير المكتشفين لم يلبسوا الكم الهائل من الأصداف مثله؛ مما يعني أن حالته الاجتماعية كانت عالية ولا بد أن يتميّز بمظهره أمام أقرانه وأمام ما يشكّل عليه خطراً.
مما ينقلنا للحديث عن المزيد من دوافع الموضة.
ودافع إضافي لها أيضاً هو أنه للتميّز القبلي أو المجتمعي أو حتى العقدي؛ فتكون قبيلة معينة ترتدي ألواناً معينة أو تحيك أقمشتها بأنماط مميزة لخلق شعور انتماء بين أعضاء القبيلة ولتمييزهم عن من خارج القبيلة -ويمكن تمييز هذا السلوك وملاحظته حالياً مع الرياضات المختلفة أو مع العصابات-.
سبب آخر قد يفسر اختلاف الدوافع هو أنه حسب المناسبة فقد توجد أزياء محدّدة لأفعال محدّدة مثل الصيد والحروب، فلا بد من لبس لباس يحمي ويبث الرعب في العدو في نفس الوقت، وفي الصور يوجد رجل يعود لحضارة مملكة كوش التي وجدت في السودان ومصر ويظهر فيها زي الحروب، فهو ليس بحاجة أن يلبس ريشة فوق رأسه؛ لكنها تعطيه أفضلية بأن مظهره يبدو أطول وأكبر بها مما يسبب الخوف لمن قد يحارب.
أحد الدوافع أيضاً هو الترميز، سواء كان ترميزاً لحيوان يمثِّل أمراً لثقافة معينة أو قد يكون لنبات مثل الشجر، أو لأساطير وآلهة يمكن الترميز بهم، كالصور التي توضح قبيلة الدوقون الموجودة في مالي الذين يرتدون أقنعة ترمز لاعتقادات إلهية وكونية.
أحد أهم الدوافع التي ما زالت موجودة الآن هي الاعتماد على معايير الجمال، ويمكننا تخيل مثال على ذلك: لنتخيل قبيلة بدائية تعيش قبل قرون، يوجد بها رجل صغير شجاع أعزب، فيبدي هذا الرجل اهتمامه بالنساء البدينات، حتى تبدأ النساء المهتمات بهذا الفارس أن يرضين هذا المعيار ليتزوجنه يوماً ما، فبعد مضي سنين أصبح معيار الفارس هذا يسري على القبيلة كلها وعلى الأجيال من بعده.