يُعدّ الفكر النقدي الحديث نتاجًا لتطوّر الفكر الإنساني في نظرته إلى الفنون، والمنعطفات المهمة في الفكر النقدي ارتبطت بممارسات القطيعة الإبستمولوجية مع المعارف السابقة. ولعل السمة البارزة التي اتسم بها النقد الحديث هي قدرته على الرصد والوصف والمساءلة في ضوء جملة من النظريات والمناهج، تعتمد على منطلقات فلسفية وإبستمولوجية، كشفت عن هويّة النصوص الإبداعيّة عن طريق البحث في آليّات تشكّلها، وعلاقاتها بمجالات معرفيّة مختلفة، مثل: الفلسفة، والأنثروبولوجيا، والتاريخ، وعلم النفس، والذّات.. وهذا التداخل بين النقد ومجالات المعرفة السابقة جعله أكثر إدراكًا لتعقيدات النصوص الإبداعية التي تتظاهر بطرح معانٍ واضحة، ولكنها - في الوقت نفسه - تسوق خِلسةً معاني أخرى خفيّة مراوغة، تتعلّق بإشكاليّات الذات المبدعة، ووعيها الفردي في التعبير عن قضاياها الخاصة. وتعدّ هذه الحركة المتوتّرة بين ما يعنيه النص وما يُعبِّر عنه هي شغل النقد الحديث والمعاصر الشاغل، أي بين عماء التعبير وبصيرة المعنى.
تُعدّ محاضرات دي سوسير de Saussure Ferdinand ( 1857 - 1913م) حدثًا معرفيًّا مؤسِّسًا في التحوّل من المناهج السياقيّة إلى المناهج النصيّة أو النسقيّة، أعقبها ظهور مدارس نقديّة تهتم بدراسة العناصر الداخلية للنص الأدبي، بدلاً من الانشغال بما هو خارج النص، مثل: دراسات شكلوفسكي Viktor Borisovich Shklovsky، تينيانوف Yuri Tynyanov ، إيخنباوم EikhenbaumBoris؛ حيث شكّلت آراؤهم معالم المدرسة الشكليّة في الربع الأول من القرن الماضي، تزامن معها ظهور النقد الأمريكي الجديد الذي تأثر - هو الآخر - بحركة الشكلانيين الروس، من حيث عدم الالتفات إلى السياقات التاريخيّة الاجتماعيّة والنفسيّة التي احتضنت العمل الأدبي، وركزوا جلّ اهتماماتهم على النص الأدبي بمعزل عن هذه الظروف. ولعل من أهم منجزات هذه الحقبة تكوين حلقات بحثيّة نقديّة، أهمها على الإطلاق حلقة براغ، أو مدرسة براغ البنيويّة، التي شكّلت نقطة تحوّل مهمة في ظهور الأسلوبية؛ ومن ثم الاهتمام بالمستويات الصوتية والتركيبية والدلاليّة في دراسة النصوص، كما أثمرت هذه الجهود ظهور مفاهيم نقديّة مؤسِّسة في النقد الحديث، مثل:
موت المؤلّف: فـ(رولان بارت) لم يكن يقصد هذا المعنى غير المنضبط الساذج والسّاكن في أذهان بعض الدارسين، والرائج على ألسنتهم، وإنما يُقصد به أنه مع ظهور التيار البنيوي تعاظم دور الأنساق في الشرح والتفسير والتأويل، وأصبح النسق، سواء كان لغويًّا، أو ثقافيًّا، أو دينيًّا، أو أسطوريًّا، مصدرًا للمعنى. وهذا يعني انتقال سلطة المعنى الذي كان يملكها المؤلف، والمعروفة في النقد القديم بالمعنى في بطن الشاعر. فالوعي بهذا التحوّل كان له أكبر الأثر في تطوّر الدرس النقدي في البنيويّة. إن مقولة موت المؤلّف تعني في الفكر النقدي الغربي تحوّل سلطة المعنى من المؤلّف إلى النسق.
مفهوم الأدبيّة؛ حيث الاهتمام بدراسة العناصر الشكليّة للنص الأدبي التي تجعل منه نصًّا أدبيًّا، ثم مفهوم الشعريّة، بوصفه نتاجًا طبيعيًّا لتطوّر الفكر النقدي عند رومان ياكبسون؛ حيث الاهتمام بالكشف عن قوانين النصوص الأدبية، ثم تفرّعت السرديّة من الشعريّة، وقام السرديون - وعلى رأسهم جيرار جينيتGèrard Genette ، ورولان بارت R.Barthes ، وتودوروف Tzvetan Todorov - بالبحث عن المعنى من خلال تحليل البنية السردية للعمل، والكشف عن طبيعة العلامات الداخليّة التي تربط بين عناصر السرد.
يُعدّ علم العلامات، أو السيميائية، أهم ثمرة معرفيّة جناها النقد الحديث من ثمار محاضرات دي سوسير، ولعل أهم ما ميّز السيميائية تشعب مجالاتها المعرفيّة؛ فهناك السيميائيات المنطقية المنفتحة على المجالات الفلسفيّة، سيميائيات الثقافة المنفتحة على مجال الأنثروبولوجيا المعرفي، وهناك سيميائيات التلفّظ المنفتحة على مفهوم الذّات في الخطاب، وهناك السيميائيات السردية المنفتحة على مجالات الخطاب السردي. ويمكننا الإشارة إلى أهم المنعطفات المعرفية في مجال السيميائيات الحديثة، لعل من أهمها محاولات جماعة (تارتو) التوفيق بين السيميائيات اللسانية - سيميائيات دي سوسير ( De Saussure ) البنيوية الذي ينتمي إلى حلقة (براغ)- وسيميائيات بيرس ( Peirce ) المنطقية الذي ينتمي إلى الاتجاه الأمريكي. ومن المعروف أن السيميائيات البنيوية، وهي ذات منزع لساني، تعتبر اللغة نظامًا من العلامات تقوم على أساس الدال والمدلول، واعتباطية الدليل، وتستبعد البُعد الاجتماعي والسياسي، وتركز على التحليل التزامني، أي تحليل الظاهرة كأنها متوقّفة في لحظة معينة من الزمن، وهي تختلف - بطبيعة الحال- عن الزمني الذي يركز على تحليل التغيّرات التي تطرأ على الظاهرة بمرور الزمن.
أما بيرس ( Peirce ) وموريس (Maurice) فقد أسّسا لفرع من السيميائيات ذي منزع منطقي يتبنّى فكرة سيميوطيقا الدلالة والتواصل، وتعتمد السيميائيات عند ( بيرس) على ثلاثة أبعاد: الدلالة ـ التداول ـ التركيب. وأسس هذا الاتجاه لما يعرف بالسيميائيات التداولية. تتجاوز السيميائيات الثقافية هذين الاتجاهين - اتجاه براغ اللساني والاتجاه الأمريكي المنطقي - فهي إلى جانب اهتمامها بعلاقة العناصر بعضها ببعض - سيميائيات دي سوسير- والاهتمام بالجانب المنطقي التواصلي - سيميائيات بيرس - تركز على دلالة الأثر، التي يضفيها المحللون السيميائيون على الخطاب، وكذلك منظومة القواعد التي تتحكّم في الخطاب، ودور السياق الثقافي/ الاجتماعي في تشكّل المعنى.
وأرى أنه من المهم اقتراح منعطف معرفي جديد، يسهم في إحداث نُقلة الدرس السيميائي من أفق النص إلى مجال الخطاب. يتطلّب هذا المقترح الاستعانة بالفينومينولوجيا وما تُقدّمه من مفاهيم فلسفية، لها قدرتها الخاصة في الانفتاح على العالم، ولاسيما مفهومي: القصديّة، والوعي. فعملية الإحالة القصدية للعلامة في الخطاب تُشير ضمنيًّا إلى موضوعات أخرى مستقلة عن الخطاب، وبمجرد استيعاب الخطاب لها تصبح جزءًا منه، وما يمكن أن تضيفه الفينومينولوجيا للدرس السيميائي الحديث هو أنها تمنح التأويل السيميائي أبعادًا إبستمولوجية، تكشف عن قدرة الوعي الإنساني على تمثّل العلاقة بين ملفوظات الخطاب وموضوعات العالم، بما يمكِّن وعي السيميائي من تجاوز الطبيعة الإحالية التقليديّة للعلامة إلى كونها تشكّلت داخل الخطاب بفعل وعي الذات الفرديّة بموضوعات العالم؛ ومن ثمّة يمكن للدارس السيميائي إدراك الوجود في الخطاب كأفعال واعية قصديّة عبر ملفوظات الخطاب، فالظواهر في الخطاب ليست أشياءً نعرفها كما هي في العالم المادي، وإنما هي أشياء تبطن في الذات المتكلّمة، وتكوّنت داخلها بفعل الوعي والإدراك.
وما يُبرر أهمية البحث في العلاقة بين الفينومينولوجيا والسيميائية يمكن أن يتمثّل في الإجابة عن السؤال الآتي: هل تظهر العلامة في الشيء ذاته مثل النومين؟ أم تظهر كتجلٍّ في الوعي العارف مثل الفينومين؟ (النومين: الأشياء كما تبدو في ذاتها. أما الفينومين: الأشياء كما تبدو لنا). فالفينومينولوجيا فلسفة وصفية تحليلية. وصفيّة: تهدف إلى إظهار الأشكال والمجالات التي تتجلّى فيها الظاهرة الموصوفة (ظاهرة طبيعية أو إنسانية). وتحليلية: تهدف إلى تفسير الأشياء كما تظهر للوعي كمقابل موضوعي، وهذا التوجه مهم جدًّا في دراسة العلامة في السيميائية.
فسؤال السيميائية يبحث في فلسفة العلاقة بين العلامات والأشياء في المكوّنات الخطابية. فالعلاقة بين العلامات والأشياء تتحلّى بقيمة برهانية وحجاجيّة حتى تتمكّن من الإجابة بالقدر الكافي والمقنع عن قيمة الأشياء، وإبراز فاعلية العلامة في التعبير عن هذه القيمة؛ لأن وجود العلامة في الخطاب يرتبط بالعثور على معنى متعالٍ للأشياء، فدراسة العلامة تركز على تحليل ما هو موجود (الملفوظ) تحليلاً يكشف عن فاعليته في استحضار الأشياء من العالم إلى الخطاب؛ ومن ثمة تصير وصفًا نقديًّا وتحليلاً إبستمولوجيًّا للملفوظ، ويؤدي الاختلاف بين الشيء والعلامة إلى فسح المجال أمام سلسلة غير متناهية من الاكتشافات عن الأشياء عبر أفعال الوعي، التي تُعطي الملفوظ معنى مناسبًا حسب خبرة الشخص المدرِك. فالعلامة تمنح الأشياء قُبلة الحياة بإعادة طرحها في سياق خطابي جديد بفعل القصديّة؛ ومن ثمّة تتنوّع القِيَم الثقافية للأشياء نتيجة ارتحالها من سياق خطابي إلى آخر؛ لأن العلامة تكشف عن القصد اللامرئي للملفوظ، فالمعاني المختلفة للأشياء خارج الخطاب تكتسي حُلاها المتجددة باستعمالها داخل الخطاب باعتبارها علامات دالة على معنى ما، وبتطوّر الوعي الإنساني يتطوّر معنى الملفوظ الذي يُحيل على سلسلة لا نهائية من الدلالات المصاحبة للملفوظ، ويبقى أن نعرف: كيف يمكن أن نضع نُتَف الأشياء في مقابل النسيج المتماسك للعلامات في عالم الخطاب؟ وكيف يمكن قراءة لاوعي المبدع عبر وعي السيميائي؟ وإذا كانت العلامات تحضر بوصفها مدركات في الخطاب، والأشياء بتفريعاتها المختلفة تسكن عالم الوعي أو اللاوعي، فكيف تنجح العلامة المدرَكة في استدعاء أشياء مدركة إدراكًا غير معهود؛ لتسكن عالم العقل أو الوعي؟ فالشاعر يؤسس للمعنى من خلال الإحالة على ما هو خارج النص عَبْر استعمال خاص للملفوظات، سواء أكان سابقًا عليه أو معاصرًا له، ثم يتطوّر المعنى عبر السياق الجديد التي تمنح الأشياء معانيها الجديدة.
** **
أ.د. عبد الفتاح أحمد يوسف - قسم اللغة العربية - كلية الآداب - جامعة البحرين
... ... ...
للتواصل مع (باحثون)
bahithun@gmail.cm