«الجزيرة الثقافية» - جابر محمد مدخلي:
روائي حمل تجربته من البحر وإلى البحر؛ لتجعله بذلك بحرًا عميقًا، ومع عمقه إلا أنّ جميع القراء بأعمارهم ومستويات ثقافاتهم يستطيعون العوم، والغوص فيه دون أن يغرقوا. قرأته قبل زمن طويل، في رباعية بحري، ثم قرأته من جديد قبل زمنٍ قصير في مجمل أعماله، أو بالأصح لو كنت صادقًا ودقيقًا فسأقول في مجسم مكتوب يحتفظ بذاكرته، ومسيرته وتجربته الإبداعية. لمست أنني أستمتع في كل مرة بحياة سرديةٍ جديدةٍ، وأصيغ عالمًا تخيليًا موازيًا ورفيًا لعالمه. الملكة الوصفية الهائلة التي لديه تذكرني بقصائد الوصف الجاهلية؛ حيث تلمس الأمكنة، وتصعد الجبال، وترى ملامح الغزلان، وتلمس حد السيف، وتحس بعرق الخيل المتصبب بعد مسافات ومعارك طويلة؛ حيث إنّ جبريل فعل ذلك في كل مرةٍ قرأت له عملاً. إنه حس حركي، يُدخلك في نصّه منذ البدء، ولسمو تجربته، واكتمالها غدا يوزّع البطولات، والأبطال، ليجعل القارئ جزءاً من النص، بل أحيانًا يُشعره بأنه هو كاتب النص، أو بطله الفعلي؛ لأنه يتحدث عنك أنت، أو عن عالمك، وحياتك، وتفاصيلك، وطبيعتك. إنه بالفعل يوصلك لحالة انسجامك الذي تمنيت الحصول عليه من غرض قراءتك لكتاباته الإبداعية. حين سمعت صوته لأول مرة تخيلت مصطلح البساطة في حديثه، ورأيت بإحساسي وتخيلي التواضع كإنسان حقيقي وسميّته لحظتها ونحن نتبادل أطراف الحديث بيقين تام: محمد جبريل.
ربطته علاقة وثيقة مع نجيب محفوظ والتصقت بداخله ذاكرة الإنسان الأديب، ومحفوظ الرمز. ولعلي أختصر القول بأن محمد جبريل ليس مجرد روائي عادي، بل تحول إلى مشروع أدبي اكتمل منذ سنواتٍ طويلةٍ مضت، وأما اليوم فقد بات رمزًا وأيقونة مهمة في أدبنا العربي وتحديدًا السردي. ولأنه الرمز والأدب القائم بذاته، كان لـ»الجزيرة» الثقافية معه الحوار التالي:
* في البدء تبارككم جريدة الجزيرة وملحقها الثقافي حصولكم على جائزة الدولة التقديرية، وترحب بكم في هذا الحوار الصحفي الذي نأمل من خلاله تسليط الضوء على عقود روائية في قلب أديبنا محمد جبريل، فأهلاً بكم..
- أشكر مشاعركم الطيبة. وأرحب بصداقتكم.
* قبل خمسين عاماً من الآن وتحديداً في العام 1970م، أصدرتم مجموعتكم القصصية (في تلك اللحظة) زمن كهل مرّ عليها... فلو عدنا إليها هل يمكن لأديبنا جبريل أن يجتزئ لنا بعضاً من المتغيرات بين لحظته تلك، ولحظتنا هذه؟
- تتلخص حياتي الإبداعية من قبل صدور «تلك اللحظة» وحتى الآن، في القراءة، والتأمل، والكتابة. حاولت خلال تلك السنوات أن تكون لي فلسفة حياة، أعبر عنها في كتاباتي، ووجدت في وحدة الفنون اتساقًا، إن لم يكن تماهيًا، مع التجارب التي تشغلني، واخترت الواقعية الروحية نبضًا لهذه التجارب. بالإضافة إلى حرصي أن تتحقق الصلة بين الآنية والتراث، وهو ما يبين - حسب تصوري - في أكثر من 40 عملًا روائيًا، ومئات القصص القصيرة. ثمة توظيف التاريخ، والتراث، وتصوير اللحظات المعاشة، بما يمكن تسميته - ولو من قبيل التجاوز- العالم الفني لكاتب هذه الكلمات.
* ولِد الروائي جبريل لأبٍ مترجم -رحمه الله- ألم تعتريكم نية لخلافته، وتكرار تجربته، ونقل خبراته، ومواصلة مسيرته؟ تراه ما الذي قرّب الروائي وأبعد المترجم عنكم؟
- لأن الإسكندرية في زمن أبي كانت مدينة كوزموباليتينية، فقد كانت وظيفته - كمترجم - مطلوبة، عمل في العديد من الشركات الأجنبية، لكل منها لغتها الرئيسة، تصلها الترجمة بلغات الشركات الأخرى. وعلى الرغم من أن أبي قصر عمله على ترجمة التقارير السياسية والاقتصادية، فإن مكتبته حفلت بكتب في الإنسانيات المختلفة من أدب وفن وتاريخ ... إلخ.. وهو ما حفّزني على القراءة، ثم الكتابة. الترجمة - بالنسبة لأبي - مهنة، وظيفة، أما الأدب فهو هواية، ربما لم تتحقق لولا تلك المكتبة التي همست لنفسي - يومًا - وأنا أنظر إليها: هل أكتب مثل هؤلاء؟
* عاش أديبنا جبريل مع عمالقة وجيل الأدب العربي الحديث الورقيّ، والآن لحق بالطفرة العبقرية المعلوماتية فما الذي فقده الأدب برأيكم بين هاتين المرحلتين؟ وما الذي اكتسبه؟
- لكل عملة وجهان. وإذا كانت الريادة في زمن طه حسين والعقاد والمازني وشكري ومحمد تيمور وطاهر لاشين وغيرهم قد مهدت الطريق لأدباء الأجيال التالية: نجيب محفوظ والسحار وزكي مخلوف وفريد أبو حديد وعبد الحليم عبد الله في الرواية، وباكثير في المسرحية، ومحمود تيمور والبدوي وصلاح ذهني وغيرهم في القصة القصيرة، وغنيمي هلال وشوقي ضيف وسهير القلماوي وبنت الشاطئ في النقد الأدبي.. إذا كان ذلك كذلك، فإن عصر الإنترنت هو عصر المعلومات التي أفادت المثقفين بما يصعب إغفاله. تكفي ضغطة زر للحصول على المعلومة التي تريدها، لن تحتاج إلى السفر، ولا إلى التردد على المكتبات البعيدة، ولا التقليب في آلاف الأوراق سعيًا للحصول على تاريخ ميلاد أو وفاة، أو نشوء مذهب فني، أو واقعة تاريخية. وقد تفهمت قول جارثيا ماركيث أن الإنترنت أضاف إلى وقته ما كان يبدده في الهوامش.
* خمسون عملاً إبداعياً، ومئات القصص، وأصوات أدبية، وثقافية نادت بأن جبريل يستحق نوبل وجدير بها، إن مجموع ما قرأته من أعمالكم يجعلني أنضم إليهم، فهلاّ حدثتمونا وقراء الجزيرة الثقافية عمَّا حدث منذ تلك النداءات؟
- صدقني.. منذ محاولتي الباكرة» الملاك» حتى الآن، لم يشغلني سوي الإبداع وما يتصل به. لا أدعي خصومة المسابقات والجوائز، بمعني أني أرحب بالجائزة دون جهد أولى به العملية الإبداعية. وإذا كان الزمن قد استغرق حوالي الأربعين سنة ما بين التشجيعية والتقديرية، فإن نوبل - التي أشكرك على ترشيحي لها تحتاج - بالقطع - إلى مئات السنين.
* أرى أنّ «رباعية بحري» جميلة إبداعياً، وفكرياً، واجتماعياً، وشمولياً، فما مصدر إلهامها لتظل بهذا التأثير والخلود وهيبة حضورها رغم تعاقب الأجيال والسنين؟
- إذا كان الابتعاد عن مصر هو الدافع لرواية محمد حسين هيكل» زينب»، ولأستاذنا الحكيم كي يبدع رائعته» عودة الروح»، فلعلي ما كنت أكتب الرباعية لو أني لم أغادر بحري. إنها وليدة حنين إلى الحي الذي شهد طفولتي ونشأتي وشبابي الباكر. لقد غادرت المكان السكندري - وبحري خاصة - فلم يغادرني. وعدا الأعمال التي وظّفت التاريخ أو التراث، فإن بحري سدى غالبية أعمالي الروائية والقصصية.
* لو طُلِبت نصائح وتوجيهات من الروائي القدير جبريل نابعة من خلاصة تجربة خمسة عقود لتوجيهها للروائيين الجدد فماذا يمكنه أن يقول لهم...؟
- لا نصائح!.. الإبداع موهبة، تحتاج - لصقلها وتنميتها - إلى تسعين في المائة قراءة، وتسعين في المائة خبرات وتجارب، وتسعين في المائة محاولات للإجادة الإبداعية. معادلة مستحيلة كما تري، لكن الأدب - كما تعرف - لا يؤكل عيشًا، وما دمت قد اخترته فلا بد أن أقبل عليه بروح المحب الذي يبذل، ولا ينتظر المقابل الإيجابي. حتى النشر - أذكرك - له طريقه المحفوفة بالعراقيل والعقبات!
* أخيراً نشكر ونثمِّن لكم في «الجزيرة الثقافية» منحكم لنا ولقرائكم جمال قربكم، ومتعة حديثكم، وأناقة حواركم وفكركم، ونترك لكم مسك الختام...؟
- أشكركم على إتاحة هذه الفرصة لتعميق إحساسي بالانتماء مواطنًا عربيًا من مصر، يخاطب مواطنين عربًا في المملكة العربية السعودية.