«وعايزنا نرجع زي زمان؟ قل للزمان ارجع يا زمان!» هكذا أرفق أحدهم هذه الكلمات من أغنية «فات الميعاد» للسيدة أم كلثوم، وقد عَزَا بلاغة هذا السؤال الموسيقي للسيدة، في حين أن صاحب كلمات الأغنية هو «مرسي جميل عزيز». ومثل ذلك يتكرر كثيراً، حيث دائماً ما نعزو كلمات الأغنية للمطرب الذي غناها، وترتبط في أذهاننا به، إلى درجة أننا -من غير قصد- ننسب الكلمات إليه، وأراهن أن كثيراً ممن يحب بعض المطربين لا يعرفون كلمات أغانيهم تعود لمن، بما في ذلك السؤال الموسيقي الخالد «وعايزنا نرجع زي زمان؟ قل للزمان ارجع يا زمان!» هل ارتبط بأذهاننا في السيدة أم كلثوم أم في مرسي عزيز؟
من هنا جئت أحمل بين يديّ فكرة «الأدب الغنائي» وأنوه بادئ ذي بدء إلى أن تسميته هذه موجودة، وهي بالشائع تحيل على نمطين؛ الأدب المغنى، والأدب العاطفي الذي يلمس إحساس الروح، ولعل فكرة الأدب الغنائي التي أريد أن أشارككم إياها في هذا المقال تقترب من النمط الأول لا الثاني.
إن الأغنية -برأيي- تتشكَّل من أنماط تكاملية، متى ما غاب نمط لا تتم الأغنية إطلاقاً، وهذه الأنماط هي (الكلمات- اللحن- الموسيقى- الصوت- الأداء) هذه أنماط داخلية للأغنية، ويوجد غيرها من الأشياء الخارجية مثل الإنتاج وما إلى ذلك، وهذا المقال ليس بصددها.
والأدب الغنائي غايته إعادة الاعتبار لهذه الأنماط التي تُختصر بالمطرب، وتتجسد به وحده، فأما كلمات الأغنية فهي منوطة بالمؤلف، ودائماً ما نجد بعض الأغاني التي تتميز بلحن جميل لكن كلماتها لا تحمل معنى ولا تعبر عمَّا في النفس، وأحياناً نجد كلمات تطيب بها الجراح لكن اللحن يظلمها، ويحول بيننا وبين الاستمتاع بها، فالكلمات أهم نمط من أنماط الأغنية؛ لأن بلاغتها تأخذ الروح إلى ما لا تستطيع الذهاب إليه.
وهذه الكلمات لا تؤدي فاعليتها ما لم تتزيَّن باللحن الذي يقدمها بأبهى حلة، واللحن وهو النمط الثاني يتفاعل بدوره مع النمط الثالث وهو الموسيقى، فاللحن والموسيقى وجهان لعملة واحدة، وكلاهما من شأنه أن يجمل الأغنية، أو أن يصير سببا في العزوف عن الاستماع إليها.
ثم يأتي دور المطرب الذي تُقدم به الأغنية، وهو ينقسم إلى دورين: الصوت، وهذا أمره معروف، والأداء، وهذا ما يتعلق بحضوره على خشبة المسرح، فبعض المطربين وُجِد المسرح لأجلهم! وكفاني أن أمثل بذلك للعندليب عبد الحليم حافظ؛ إنه يحرك المسرح بين يديه وفقا للكلمات التي يتغنى بها، وكأنه صلصال يشكله كيفما شاء! يحرك معه الفرقة الموسيقية، والجمهور، كالمد والجزر يسحبهم إليه ويثنيهم عنه، يرقص كل المسرح مع الكلمات الراقصة، ويبكي مع بكائه! مثل هذا التحكم في الأداء المسرحي ليس كل من غنى على المسرح يجيده؛ فهو ملكة، ونمط من أنماط الأغنية خاص بالمطرب، إلى جانب نمط الصوت.
فإذا ما رام دارس، إن كان من طلبة الدراسات العليا أو غيرهم، دراسة الأدب الغنائي، فلا بد أن يضع باعتباره هذه الأنماط الخمسة، وما أسعدني إن استكمل أحدهم هذا المشروع وزودني بأنماط تعد أركان ثابتة في الأغنية. وأيًا كان من الأمر فإن هذه الأنماط تفتح المجال على تزاوجية التخصصات، ففي الأدب الغنائي يدخل علم البلاغة الخاص بنمط الكلمات، وعلم الغناء، والموسيقى وأوتارها ونوتاتها، وعلم المسرح، والصوتيات؛ إنه مشروع متمازج بعلوم بُنيت من الجمال!
** **
- سراب الصبيح
sarabalwibari@gmail.com