قد يبدو المجال خصبًا للكتابة عن الأب لكنها قبل كلِّ شيء تأملٌ في طبيعة إنسانية وسبرٌ لروح مُشرقة، يغدو الكاتب إزاءها كمن هو واقفٌ أمام جبل شاهق.
وأظن أن تقرير الأستاذ القدير محمد الرويلي ينشدُ معرفةً ضمنية تختبئ بين من هم أشدُّ التصاقًا بهذا الإنسان؛ وهذه لا تتكشف إلا من لدن المُحتفى به أو من أفراد عائلته.
وأنا أستحثُ نفسي على الكتابة الآن عن والدي أتذكرُ كلَّ مرة كان يستحثني فيها على فعل الكتابة، وتتراءى لي مقالته «لماذا تكتب؟ لماذا لا تكتب؟» في أول كتاب له «أنتَ واللغة» كسؤالين أبديين منذُ الصِّغر كلما صافحتْ عيناي أدوات الكتابة حتى أصبحت تطرقني حين تُثقلني الحياة بآلامها ثم لما غدوتُ أنشدُ منها فهمًا لأسرار تُنبِتُ النُّور من غسقٍ يحجبُ الحقيقة.
وفي كلِّ مرة يستحثني فيها والدي على هذا الفعل أجدني أتدفقُ بها، وحين أعزفُ عنها يخبرني أن الإنسان تأتي عليه لحظاتُ صدود عنها فما يكون لي إلا القراءة مسلكًا. غيرَ أني الآن أمامَ أبي موضوعًا مَاثَلًا ومُؤوَّلًا لا مُستحِثًّا على الكتابة ولا خارجًا عنها.
عن صاحب استصحبني واستصحبته فأضاء لي دربًا وزادني إشراقًا، فتح لي نوافذ البحث لأبصرَ معالم الطريق، وأغدقَ عليَّ بصبره على سيري المُتمَهِل نحو مسْعَاي.
عن راعٍ لا يفرضُ الوِصاية على أهل بيته بل يُتيح لهم مساحةَ العبور بطمأنينة.
عن مُربٍّ لا يُسوِّر سِياجًا من الأفكار والتعاليم لأبنائه وبناته بل يُطلق فيهم طاقةً هائلة يستمدون منها القيم الإنسانية من ما هو صَانِع.
عن أستاذٍ لا يُلقن الدروس تلقينًا بل يُرسلها أمثالًا ومجازاتٍ تُشكِّل وعينا تارةً وتحرره من عوالقِ الزمن تارةً أخرى.
عن سيدٍ لا يتمثلُ السِّيادة فيطلق أحكام الفصل ويقرر الصواب من الخطأ والخطأ من الصواب بل يفتح للآخر المجال على مصراعيه مُصغيًا لا مُجادِلًا، فينطلق القولُ منكَ وإليك ويحتدم الحَجَاجُ داخلك وتتسع رؤيتك للأمر المنغلق فترى فيه غيرَ ما كنت تراه، وتنشد منه غير ما كنت تنشد أولَ الأمر.
البساطة والرضا متلازمتان في حياته، تتغلغل في سائر شؤونه فلا شروط لشيءٍ عنده من ملبسٍ أو مشربٍ أو مأكل، وحتَّى طقس الكتابة على بساطته فخلفه عمقٌ أكبر أفرغَ ذهنه له، مُجرِّدًا نفسه من كلِّ الصّوارف والشواغل.
بارعٌ في تكييف ظروفه - حتى في أصعبها - على إنجاز مهماته، فلا تغيب عن ذهني أيام شِدَّةٍ وعناء كان يرقد فيها في المشفى، أحملُ إليه أوراقه وجهازه الخاص أثناء الزيارة ليستكملَ تحكيم أبحاث ترقيةٍ لأستاذةٍ جامعية.
يقوم على أمره بنفسه بلا اتكالية ودون حاجةٍ إلى صرخةٍ يتغيا منها جلبَ منفعةٍ أو أداء مهمةٍ بالنيابةِ عنه. وحين تتلمس حاجته يهرعُ إليها قبل أن تؤديها إليه.
هذا أبي كما أعرفه يبدو كما ألفناه، فليس ثمة شيء قد يبدو مختلفًا إلا حين تصطدمُ بتجربةٍ مُضادَّة. وكأي ابنة تنكسر في هذه الحياة تبدأ بالتعرف على والدها من جديد!
فعند كل اختبارٍ في الحياة تتقافزُ حواراته الراقية إلى مسمَعِي ونغمته الهادئة تجول في أفقي وأسلوبه اللطيف يربتُ على كتفي: «أن هذه هي الحياة». فما كان يبدو عاديًّا في نظر الابنة لم يكن عاديًّا، بل هو حظٌّ من حظوظ الحياة أُوتيته.
رويدًا رويدًا يصبح هذا الأب مساحةً للتأمل، يدخلك العجب حين تُستفز بالأمر والنهي ثم تدرك سِرَّ المفارقة فصيغة الأمر والنهي المُتراكِمَة في الخارج لا نكاد نعثر عليها في حديثِ والدي.
لا يعيش حياته في سباقٍ مع الزمن وبانتظار لحظةٍ سانحة تسمح له بالكتابة كما انتظرتها الآن بل يحملُ كلَّ طاقاته إليها.
أثناء دراستي للماجستير في دبي قال لي حين شعرَ بعجزي يوم أن فقدت توازني وتخشبت أطرافي: «يا بنتي قد يذهب الإنسان لتحقيقِ هدفٍ ما ويفاجأ بأنه حققَ أهدافًا أخرى». لتصبح هذه العبارة مُؤنستي التي تُواسيني حين لا تصيبُ سهامي أهدافها أو تنحرف عن مسارها، ولتبعثَ في داخلي إيمانًا بأن السَّهم أصابَ هدفًا آخر لم أفطنْ له، ولم يكن واحدًا بل أهدافًا متعددة.
ثم تصل رسالة الرحلة التي لا تنتهي بل تظل في سيرورةٍ مستمرة نرتحلُ معها من معنىً إلى معنى باحثين لاهثين حتى نغادرَ هذه الحياة.
هذا أنت يا أبي تسعى معنا نحو رؤيتنا وتخلق لنا أجواءها التي نمضي فيها نحو مصيرنا. حفظكَ الله ورعاك.
... ... ...
منيرة القرشي - (ابنة الأديب عالي القرشي) السعودية
* * *
سيرة الناقد: عالي سرحان القرشي
- ولد في الطائف عام 1371هـ.
- أستاذ النقد في جامعة الطائف.
- دكتوراه من جامعة أم القرى 1410هـ.
* من إصدارته:
- أنت واللغة
- الرؤية الإنسانية في حركة اللغة
- شخصية الطائف الشعرية
- نص المرأة
- أسئلة القصيدة الجديدة
- تحولات النقد وحركية النص
* الجوائز:
- حصل كتابه «تحولات الرواية في السعودية» على جائزة وزارة الثقافة والإعلام.
- قدّم عديدًا من الندوات والدّراسات البحثية داخل المملكة وخارجها.