د.محمد بن عبدالرحمن البشر
عندما نكتب عن التاريخ المصري والكنعاني القديم ليس لأنه تاريخ عظيم، وحسب، لكن أبعد من ذلك أنه قد يثري فهمنا لبعض القصص الواردة في التوراة والإنجيل والقرآن، وقد يساعد المفسرين للقرآن الكريم لإضافة حقيقة جديدة قد تكون غائبة عن الأذهان، فأغلب المفسرين القدامى، اعتمدوا على ما ورد في التوراة في بعض التعابير، التي اعتراها بعض التحريف.
في فترة من فترات تاريخ المنطقة المجيد، وفي عهد تحوت - موسى- الثالث، أو تحتمس الثالث، فرعون مصر، الذي حكم عام 1479 حتى 1424 قبل الميلاد، كانت فلسطين وسوريا وجزء من العراق تحت سيطرة مصر، لكنه يعلم أن تلك المنطقة لها ثقافتها العريقة، وأسلوب سكانها في إدارة شؤونهم، وحوربهم فيما بينهم التي لا تنتهي، ومهاراتهم الفائقة في التجارة.
لهذا فهو لم يكلف نفسه عناء ترتيب حياتهم السياسية والاجتماعية، بل اكتفى بأن يقدموا له الولاء والطاعة من خلال القسم السنوي الذي يقسمونه أمام الفرعون كل عام، وكذلك إرسال أحد أبنائهم أو بناتهم إلى مصر، ليخدموا الفرعون، ويكونوا رهائن عنده، ولا فرق عنده بين زعمائهم سواء كانوا يحكمون مدناً صغيرة أو كبيرة، ويطلق عليهم كما يطلقون على أنفسهم، رجل مدينة كذا، وباللغة الأكدية التي كانت لغة المخاطبة الرسمية في ذلك الزمان خزنوتي وفي اللغة المصرية، حاتي، وفي العادة فإن رجال المدنية هؤلاء، يحكمون مجتمعاً مكوناً من طبقتين، هم الطبقة الاستقراطية، ويطلق عليهم «المارينو» وهم الفرسان المحاربين، الذين يقودون العجلات، وطبقة أقل، يقال لهم «خوبشو» وهم الفلاحون الذين يقع عليهم عناء الزراعة، وتوفير الغذاء للمدينة، وإمداد الجيش بما يحتاجه من الجنود المشاة.
ما يجدر بنا التوقف عنده هي تلك العبارات التي تحمل قمة معاني التذلل والتخلف والنفاق التي يسطرها أولئك الرجال الكنعانيون، المسمون برجال المدن، أو إن صح التعبير بالعمد، الكنعانيين التابعين للفرعون. ومن تلك الجمل خطاب أرسله أحدهم إلى الفرعون قال في مقدمته. «ها قد أرسلت ابنتي، إلى الفرعون سيدي وإلهي وشمسي» - تعالى الله عما يقول علواً كبيراً - أما الآخر فيقول: «أرسلت ابني إلى حضرت الفرعون، سيدي، كي يتكرم على جلالة الملك سيدي، ويمنحني الحياة».
عندما يموت أحد رؤساء المدن الكنعانية التابعين للفرعون، فإن الفرعون يرسل أحد أبناء رجال المدينة الموجودين في مصر إلى هناك ليكونوا رؤساء، ولا شك أن هؤلاء الأبناء قد تشربوا بالثقافة المصرية، وتعلموا في مدارسها واتقنوا اللغة المصرية لتكون لغتهم الأصلية، بينما اللغة الكنعانية تكون هي اللغة الثانية، ولقد التحق بعض منهم بالوحدات العسكرية، أو شبه العسكرية التي تقوم بحراسة الفرعون أو يركضون أمام العجلة الملكية، كما أن بعضهم أسند إليهم حراسة بوابة قصر الفرعون.
عندما تمر كتيبة مصرية في بلاد كنعان، فإن أولئك الرؤساء، أو العمد، يهبون لمرافقة الكتيبة، ويزويدونهم بما يحتاجون من مؤن، وجنود، رغم أن الكتيبة لا تحتاج إلى جنود لكون السيطرة كاملة من قبل مصر، ويهرع رجال المدن، يتسابقون في تقديم الولاء، واستخدام عبارات التزلف، المبالغ فيها.
لقد حفظت لنا الآثار كتاباً من أحدهم، أرسله لفرعون مصر يقول فيه، «لقد أعددت الثيران والأبقار، كما أمرتني في الخطاب»، وقال آخر «لسوف أقف على أهبة الاستعداد، مع قواتي، وعجلاتي الحربية، وأشقائي، والعابيرو، والسوتو، التابعين لي انتظاراً لوصول القوات، ولأداء ما يفرضه علي الواجب، حينما يأمرني سيدي»، وهناك خطاب آخر كتبه رجل مدينة «عشقلون» إلى الفرعون فيه تزلف يفوق الوصف، ومما قال فيه «إلى جلالة الفرعون سيدي وإلهى وشمسي، والشمس في كبد السماء، خادمك، تراب قدمك عند قدمي الفرعون ارتمي على بطني وعلى ظهري، لقد حضرت الموضع الذي كلَّفني جلالة سيدي الفرعون أن أخفره، وكل ما كتبته إلى الفرعون سيدي امتثلت له بعناية فائقة، فمن هو الكلب الذي لا يمثل لكلمات الفرعون سيده، إن رع».
يالله، ما أصعب حياة الذل والمهانة التي تجبر المغلوب على أمره أن يقول قولاً كهذا ليعيش مع أهله في مدينته، أو ربما أنه لم يجبر على ذلك، وإنما قالها تقرباً وتزلفاً للفرعون حتى يبقيه في منصبه، وإن من أقسى مواجع الحياة، وأكثرها ألماً، موقف الحر موقف كهذا، إذا كان مجبراً عليه، إما إذا كان تزلفاً ليبقيه فرعون في منصبه، فهذا رجل ليس بحراً، ولا كريم نفس.
إن ما نصبو إليه من كل ذلك السرد التاريخي هو أن نعلم أن نفوذ فرعون، كان سائداً خارج مصر، ولهذا فإن قصة موسى عليه السلام، وقبله يوسف عليه السلام، ومكان حدوثها، قد يكون له مفهوماً جديداً في الزمان والمكان، يستفيد منه المفسرون، ورواة التاريخ والمحققون.