زكية إبراهيم الحجي
ما أكثر الوقائع والأحداث والتاريخ خير شاهد.. التاريخ بما فيه من تجارب مرت بها البشرية هو بمنزلة سجل مفتوح لكل من أراد أن يستقي من معينه ما يجهله.. والأحداث تتوالى على مر التاريخ، ومنها ما يُحدث تحولاً وقفزة تختصر الزمن إذا توافقت مع رغبة البشر ومصالحهم.. وبالمقابل قد تُدفن الحقائق التاريخية عندما يتم التوثيق على يد دجالين يزورون ويشوهون الحقائق حال تسيد ثقافة رأس المال وما أكثرهم، فهم أشبه ببطل الأسطورة الشهيرة مصاص الدماء «الدراكولا»، لكن الفارق يكمن في مص الأموال مع إخفاء الحقائق لمصلحة رؤوس الأموال.
لم تكن السطور السابقة سوى مدخل لظاهرة الإعلام الأسود الذي تعاني منه مختلف مجتمعات العالم.. الإعلام الأسود الذي بات يشكِّل عموداً فقرياً في إستراتيجية الإلهاء أحد أهم عناصر التحكم في عقول الشعوب، ليس في نقل الأخبار والأحداث فقط وإنما في صياغة وتحديد توجهات الرأي العام لصرف أنظارها عن حدث ما، أو التشويش على حقائق واقعية وتشويه القناعات بشأنها لتتحول في وعي الشعوب حدثاً وهمياً.. ليس هذا فحسب بل السعي لتغيير وجهات النظر باتجاه واقع غير موجود ثم تجسيده والدفاع عنه حتى يصبح في وعي الشعوب حقيقة واقعة.
ورغم أن العلاقة بين الحقيقة والإعلام هي علاقة جدلية تبادلية، إذ في الوقت الذي تسهم فيه الحقائق في صناعة إعلام ناجح ومؤثر إلا أنه في الوقت ذاته يملك مقدرة كبيرة في تدوير الحقائق والتلاعب في مضامينها وتوظيفها في سياقات تخدم جهات أو دولاً بعينها. وقد سبق أن أشار الكاتب الناقد الأمريكي «هربرت شيلر» إلى ذلك في كتابه «المتلاعبون بالعقول»، فمما ذكره قوله.. إن سائسي العقول يملكون قوة إعلامية قادرة دوماً على طرح الأفكار التي يريدونها والترويج لها، مستخدمين في ذلك خبرات وفنون الاتصال المتطورة حتى صار كهنة الإعلام يتقنون التضليل الإعلامي وطمس الحقائق بهدف السيطرة على وعي الجماهير، إنه «الوعي المعلَّب»، ولنا من الواقع الأمريكي شواهد كثيرة، فعلى سبيل المثال الصدام والسجال المتكرر بين الرئيس الأمريكي «ترامب» ووسائل إعلام دولته منذ أن كان مرشحاً للرئاسة.. هاجم غالبية الشبكات الإعلامية وما زال.. ووصفها بالكاذبة المضللة منعدمة النزاهة، مستشهداً في ذلك بتغطية مزاعم اتصال حملته الانتخابية بمسئولين روس.. أيضاً نجد سيناريو الإعلام الأسود متمثلاً في البوق الإعلامي قناة الجزيرة القطرية التي تجاوزت كل الحدود القانونية والأخلاقية والمهنية وتحولت إلى آلة فاقدة للمصداقية، هدفها بث الأكاذيب وتضليل المشاهد العربي والترويج لكل ما يخدم أجندة الهدم والتخريب.. هي بوق للفتنة ومنبر لترويج الفكر الإرهابي المتطرف.. قناة كشفت الوجه الحقيقي لنظام الدويلة الصغيرة قطر.
هكذا يتفنن الإعلام الأسود بأدواته الخبيثة ومرتزقته.. صناعة الكذب وتزييف الواقع وتدليسه.. ضرب السياسات الدولية بعضها ببعض والتلاعب بعقول البشر، وهلم جرًا.. كل ذلك وفق قواعد ممنهجة ضالة ومُضِلة.