أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال الله سبحانه وتعالى: {طسم (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ(6)}.. هذه السورة مَكِّية كلها، قاله الحسن وعطاء وعكرِمة.. انظر كتاب (النكت والعيون) 4-233، وتفسير القرطبي 16-228 .. وقالَ مقاتل: فيها من المدَنِي {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ مِن قَبْلِهِ} (الآية: 52) إلى قوله: {لا نَبْتَغِي الجاهِلِينَ} (الآية:55)، وقِيل: نزلت بين مكة والجحفة.. وقال ابن عباس: بالجُحفة، في خروجه عليه الصلاة والسلام للهجرة.. (قول ابن عباس هذا هو في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} (سورة القصص: 85)، (النكت والعيون) 4-233، و(زاد المسير) 6-200، و(تفسير القرطبي 16-228، ونسبه الماوردي والقرطبي أيضًا لقتادة، وأخرج الطبراني في (الأوسط) 7662 عن ابن عباس أنها نزلت في أصحاب النجاشي الذين قدموا وشهدوا أُحدًا.. قال الهيثمي في (مجمع الزوائد) 7-121: فيه من لم أعرفهم).. وقال ابن سلام: نزل {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} (سورة القصص: 85) بالجحفة، وقت الهجرة إلى المدينة، ومناسبة أول هذه السورة لآخر السورة قبلها أنه أمره تعالى بحمده، ثم قال: {سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} (سورة النمل:93).. وكان مما فسَّر به آياته تعالى: معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه أضافها تعالى إليه؛ إذ كان هو المخبر بها على قدمه؛ فقال: {تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ} إذ كان الكتاب هو أعظم المعجزات، وأكبر الآيات البينات، والظاهر أن الكتاب هو القرآن، وقيل: اللوح المحفوظ.. {نَتْلُوا}؛ أي نقرأ عليك بقراءة جبريل، أو نقص، ومفعول نتلو (من نبأ): أي (بعض نبأ).. (هو قول الزمخشري في (الكشاف) 3-164، ونقله عنه البيضاوي، قال الشهاب في حاشيته على البيضاوي 7-62:جعل الحرف مفعولاً لا يوافق القواعد النحوية؛ فإما أن يكون هذا ميلاً مع المعنى، أو يكون المراد أن مفعول {نَتْلُوا} محذوف؛ وهو (شيئًا)، ولما كان الجار والمجرور صفة له قائمة مقامه سماه مفعولاً تسمُّحًا، كما جعلوا الظرف حالاً، والحال في الحقيقة متعلقة)، وبالحق متعلق بـ(نتلو)، أي محقين، أو في موضع الحال من نبأ، أي متلبِّسًا بالحق، وخص المؤمنين؛ لأنهم هم المنتفعون بالتلاوة.. {عَلَا فِي الْأَرْضِ}؛ أي تجبَّر واستكبر حتى ادعى الربوبية والإلهية.. والأرض: أرض مصر، والشيع: الفرق، ملك القبط، واستَعْبَد بني إسرائيل؛ أي يشيعونه على ما يريد، أو يشيع بعضهم بعضًا في طاعته، أو ناسًا في بناء وناسًا في حفر، وغير ذلك من الحرف الممتهنة، ومن لم يستخدمه ضرب عليه الجزية، أو أغرى بعضهم ببعض؛ ليكونوا له أطوع، والطائفة المستضعفة بنو إسرائيل.. انظر (تفسير الكشاف) 3-165.. والظاهر أن {يَسْتَضْعِفُ} استئناف يبين حال بعض الشيع، ويجوز أن يكون حالاً من ضمير {وجَعلَ)، وأن تكون صفة لـ{شِيَعًاْ}، و{يُذَبِّحُ} تبيين للاستضعاف وتفسير، أو في موضع الحال من ضمير {يَسْتَضْعِفُ}، أو في موضع الصفة لـ{طَائِفَةً}..
وقرأ الجمهور: {يُذَبِّحُ}، مضعَّفًا؛ وأبو حيوة، وابن محيصن: بفتح الياء وسكون الذال.. انظر (المحرر الوجيز) 4-276.. {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} علة لتجبره ولتذبيح الأبناء؛ إذ ليس في ذلك إلا مجرد الفساد.. ....{وَنُرِيدُ} حكاية حال ماضية، والجملة معطوفة على قوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ}؛ لأن كلتيهما تفسير للبناء، ويضعف أن يكون حالاً من الضمير في {يَسْتَضْعِفُ}، لاحتياجه إلى إضمار مبتدأ؛ أي ونحن نريد، وهو ضعيف، وإذا كانت حالاً فكيف يجتمع استضعاف فرعون وإرادة المنَّة من الله، ولا يمكن الاقتران؟! فقيل: لما كانت المنَّة بخلاصهم من فرعون قرينة الوقوع، جعلت إرادة وقوعها كأنها مقارنة لاستضعافهم.. و{أنْ نَمُنَّ}؛ أي بخلاصهم من فرعون وإغراقه.. {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً}؛ أي مقتدى بهم في الدين والدنيا..
وقال مجاهد: دعاة إلى الخير، وقال قتادة: ولاة، كقوله: (وجعلكم ملوكًا)، وقال الضحاك: أنبياء.. انظر (النكت والعيون) 4-234.. {وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}؛ أي يرثون فرعون وقومه ملكهم وما كان لهم.. وعن عليّ الوارثون: هم يوسف عليه السلام وولده.. (وأخرج ابن أبي حاتم 9-2941 (16678) عن علي في تفسير {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} قال: يوسف وولده).. وعن قتادة أيضًا: ورثوا أرض مصر والشام.. (نسبة القول لقتادة انتقال بصر من المؤلف رحمه الله تعالى؛ وهو ينقل عن كتاب (المحرر الوجيز)؛ وهذا نص الكلام في (المحرر الوجيز) 4-276 قال ابن عطية: والأئمة: ولاة الأمور. قاله قتادة {وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} يريد أرض مصر والشام؛ فقول قتادة في الأئمة بولاة الأمور، وما بعده من كلام ابن عطية).. وقرأ الجمهور: {وَنُمَكِّنَ} عطفًا على (نَمُنَّ)، وقرأ الأعمش: (ولنمكن)، بلام كي؛ أي: وأردنا ذلك لنمكِّن، أو ولنمكِّن فعلنا ذلك.. والتمكين: التوطئة في الأرض، هي أرض مصر والشام بحيث ينفذ أمرهم، ويتسلطون على من سواهم.. وقرأ الجمهور: {وَنُرِي} مضارع أرينا، ونصب ما بعده.. (قراءة حمزة والكسائي وبقية السبعة في السبعة ص492، والتيسير ص170)، وعبدالله، وحمزة، والكسائي: ويرى، مضارع رأى، ورفع ما بعده.. و{هَامَانُ} وزير فرعون وأحد رجاله، وذكر لنباهته في قومه ومحله من الكفر، ألا ترى إلى قوله له: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} (سورة غافر/ 36)، ويحذرون؛ أي زوال ملكهم وإهلاكهم على يدي مولود من بني إسرائيل.. انظر (تفسير الكشاف) 3-165.. اللهم يا ربَّنا ارض عن جميع الأئمة الكرام الذين مر ذكرهم، واحشرنا معهم في دار كرامتك، وإلى لقاء قادم إن شاء الله تعالى, والله المستعان.
** **
كتبه لكم: أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري - (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل)
- عفا الله عني، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -