فهد عبدالله العجلان
ليس ثمة شك أن القضية الفلسطينية في الشرق الأوسط كانت ولا تزال ناظمًا إستراتيجيًا في إستراتيجيات دول كبرى وإقليمية يتم استثمارها أو استغلالها في صراعات تثبيت الوجود أو توسع النفوذ، ولذا كان تاريخها مليئاً بالأحداث التي لم يكن أحد من المحلّلين قادراً على إعطاء الوزن النسبي لمسؤولية كل طرف في تاريخ تعثّر هذه القضية أو تقدّمها، والتي تعد اليوم أعقد وأهم قضايا الصراعات السياسية في العالم!
من المسلَّمات أن هذه القضية ترتبط بإرث ديني عميق لا يمكن تجاهله أو التقليل من شأنه حتى لو بدا أن تأثيره يزداد أو يخبو في مرحلة دون أخرى، وليس الأمر مرتبطاً بجانب دون آخر، فالسياسي العربي والإسرائيلي يدركان أن مساحة الحل مهما ضاقت أو اتسعت فإنها رهينة لهذا الإرث الذي يستمد حضوره وقوته من عقيدة عابرة لقناعات الأجيال، ولذا فإن التعاطي مع هكذا قضايا يمثِّل حساسية أكبر مما قد يتصوّرها السياسي الراهن، وستظل جذور تأزيم هذه القضية حاضرة وراسخة حتى يستوعب الطرفان حدود هذا التأثير ويحدّدان مساحة دورهما في الحل!
في نظري أن حديث الأمير بندر بن سلطان قد حسم تقييم الأوزان النسبية في المواقف العربية والفلسطينية تجاه القضية الفلسطينية، وقد أثار ردود أفعال واسعة مؤيِّدة ومخالفة، لكن كثيرًا من هذه الردود وفق ما قرأت وشاهدت كانت محصورة في أن حديث الأمير بندر ردة فعل على تصريحات القادة الفلسطينيين الذين قادهم الحماس والنكران للهجوم على دول الخليج باعتبارها ارتدت عن القضية الفلسطينية! وأتصور أن حديث الأمير بندر يحمل ضمن أهدافه رداً على تلك القيادات بلا شك، لكن ظهوره وحديثه بهذه الشفافية والوضوح أبعد من مجرد الرد على أشخاص!
لن أعيد السرد التاريخي والموثَّق الذي رواه بندر بن سلطان بحرقة الشاهد على خطايا القضية الفلسطينية والتي وصفها بقضية الفرص الضائعة، لكني سأقرأ أبعاداً من وجهة نظر شخصية ذكرها الأمير حين صدع بجملة تاريخية أنهم (حدُّوه إلى أقصاه!)، ربما لم يكن سيبوح بها لولا المستوى الذي وصلت له القيادات الفلسطينية في تزييف الوعي العربي تجاه تاريخ القضية كما ذكر!
القيادات الفلسطينية الحالية المنقسمة ليست قادرة على تحقيق أي تقدّم أو نجاح في هذه القضية العادلة، رغم اتساع مساحة تعاطف العالم أجمع معها, لأن أفق الحلول دائماً ما يتعثَّر بإرادة فاعلة أو مفتعلة بوعي أو بدون وعي وبمصالح وحسابات أضيق من قضية بهذا العمق التاريخي، والحل اليوم بات في يد الشعب الفلسطيني المغيَّب عن قضيته بإدراك دوره التاريخي في أخذ زمام المبادرة بإعداد واختيار قادة يمتازون بوعي وطني تاريخي يوقف نزيف الفرص التي ربما لم يبق فيه المزيد! ومن الواضح أن العالم أجمع قد أدرك أن هذه القيادات أصبحت عبئاً على الحل الذي ربما سيفقدها مكاسب أكثر مما تمنحها المشكلة!
مما يتضح من سيرة هذه القيادات أنها مقابل ومكمل للصوت الإسرائيلي المتشدِّد الرافض لأي حلول توافقية ممكنة للقضية، فالسياسية الإسرائيلية المؤمنة بقضية شعبها تدرك حدود الممكن وتسمح للصوت الآخر داخلها بأخذ زمام المبادرة بما يعزِّز المكاسب دون أن يحدِّد القرار، لكن الانقسام الفلسطيني الشكلي يختلف في الداخل على المصالح الشخصية ويتفق في عدمية مواجهة الحلول مع الخصم في الخارج، ومع حسن النيَّة في مقاربة الحالة أن نصفها بالحماقة والغباء، وهو وصف لطيف أترفّع أن أذكر غيره هنا!. أتذكّر حين كنت في بريطانيا أن سيِّدة إنجليزية مسنَّة فاضلة كنت أسكن معها في بداية الألفية الثانية، كانت تتعاطف كثيراً مع القضية الفلسطينية وتلومني -كعربي - حين تشاهد صور الملثمين المدججين بالأسلحة من حماس في استعراض عسكري تعرض قناة BBC صوراً منه وكانت تتساءل ببراءة: أليس الفلسطينيون محاصرين ولا يملكون ما يدافعون به عن أنفسهم ... فما تفسيرك لهذه الصور؟ ومَن هؤلاء؟. وكان ذلك يتزامن مع التفجيرات الانتحارية في تل أبيب في مقاهٍ وأماكنَ مدنية قبل جريمة 11-9، وكانت إجابتي أن هؤلاء حلفاء للمتشددين الإسرائيليين ولا يمثِّلون الفلسطينيين لقناعتي بعمق سؤالها وعدم قدرتي على تقديم رد مقنع لتوصيف الحالة!
الحقيقة التي ظل العرب متحفظين على الجهر بها، لقداسة القضية الفلسطينية وحساسية نقد من يمثِّلها، أن نمط القيادة الفلسطينية أسيرٌ لثقافة تنظيمات ظلامية تقبع في أقبية سرية ترتبط بحسابات أبعد من القضية، وأنهم أعجز من القيام بمهمة إدارة دولة تنموية، ولذا استمرت إدارتهم للقضية بالارتهان لقوى تجيد العبث في الظلام لتحقيق أهدافها، والضحية -للأسف - كان ولا يزال المواطن الفلسطيني الذي أصبح شغله الشاغل في لقمة العيش والاكتفاء بوهم شعارات المقاومة دون إنجاز! ولذا حين بدأت مرحلة المفاوضات والمكتسبات في العلن، رغم تواضعها، فشلوا في تقديم نموذج لمحاكاة دولة يمكن أن تتنفس التنمية والوجود، فامتهنت هذه القيادات مسار الثناء على المساعدات من الأشقاء والشتم والنكران في المواقف التي تضعها أمام واجباتها وتحدياتها!.
المتأمّل في تاريخ النضال العالمي يدرك أن قيادات النضال دائماً ما تصنع نموذج القيادة التي تقدِّم التضحيات والمواقف لتمنح شعوبها الوعي والدعم لمواصلته، لكن النموذج الفلسطيني -وللأسف - يختلف في مساره، فالشعب الفلسطيني الصامد أثبت أنه أكثر إدراكاً ووعياً من قادته؛ فهو يدرك أن قيادات النضال التاريخي لم تكن غارقة في السعي لتنمية ثرواتها وأرصدتها في فترة النضال والاسترزاق من وجع قضاياهم، ولو فتح هذا الملف بشفافية فإن الأمر أكبر ربما مما يعتقدونه!، وقد استوقفني حديث الأمير بندر حين قال إن خطاب القيادات الفلسطينية لا ينسجم مع رؤية قادة نضال حقيقيين يدركون أهمية استقطاب الحلفاء فضلاً عن نكران وطعن ظهر حلفاء ضحّوا بالغالي والنفيس من أجل دعم ونصرة قضيتهم! لكن في نظري أن طبيعة قيادات النضال الاسترزاقي لا ترى حرجاً من التقلّب في أحضان الداعمين بصدق إلى أحضان المستثمرين للقضية - بمعنى أدق - والتحول إلى بيادق لأجندات تتناقض مع قضيتهم الرئيسة المفترضة، لأن ثمن أدوارهم يتقلَّب في بورصة المواقف دون توقف!
لا بد من التأكيد اليوم لشعوب المنطقة أن لكل مرحلة أولوياتها في مواجهة التحديات، والدول التي نجحت تاريخياً في تحقيق نموذج (دولة الرفاه) بمكتسبات اقتصادية واجتماعية راسخة تدرك استباقياً مسار التحولات والوزن النسبي الحقيقي لطبيعة التحديات، فالمنطقة اليوم تشهد إعادة صياغة تستند إلى قيادات تملك الوعي بحقيقة أن منطقة الشرق الأوسط هي أكثر مناطق العالم اليوم تأهيلاً لقيادة النمو والتنمية الاقتصادية في العالم، وهذه الفرصة التاريخية التي يجب أن لا تضيع كما ضاع الكثير غيرها، تستلزم إعادة تعريف المصالح، فالحرب الباردة اليوم - إذا جاز التعبير - تنموية واقتصادية بلا منازع!
غرس في الوعي العربي لعقود طويلة أن الراعي الأمريكي لقضية الشرق الأوسط وسيط غير نزيه، وساهم الوعي الإعلامي العربي الضعيف «المغيَّب» عن ثقافة الاستقصاء والتحليل وللأسف في تكريس هذا الوهم في القواعد الشعبية العربية، متجاهلاً أن المصالح الأمريكية ليست رهناً لأي طرف سوى من يفهم أولويات مواقفه ودوائر التأثير المرحلية داخله، وقد استوقفني تفاعل عدد من الأصوات الأمريكية الفاعلة المطلعة بعد حوار الأمير بندر بن سلطان، فجاء رد السفير الأمريكي السابق لدى مملكة البحرين والمستشار لوزارة الخارجية الأمريكية «جوزيف آدم إيريلي» على الصحفي لدى نيويورك تايمز «نيري زيلبر» عندما غرَّد قائلاً الأمير بندر: «القضية الفلسطينية قضية عادلة، لكن محاميها فاشلون. القضية الإسرائيلية ظالمة لكن محاميها ناجحون. وهذا يلخِّص أحداث السبعين أو الـ75 سنة الماضية». فعلَّق السفير إيريلي بأن ما جاء في لقاء الأمير بندر بن سلطان على قناة العربية «يلخِّص بدقة اللغز الذي يحتفظ به الرجل الكبير!»، أيضاً الدبلوماسي الأمريكي «دينيس روس» والقريب من القضية، علّق قائلاً «بندر لخَّص الخطوط العريضة متسقة في الدعم السعودي للقضية الفلسطينية بينما يرفض القادة الفلسطينيون مرارًا وتكرارًا الفرص». واصفًا اللقاء بأنه «يضع الأمور في نصابها الحقيقي». «سيغورد نيوباور» وهو مُفكِّر ومحلِّل مهم في SOS International ، وهو بيت استشارات دفاعية أمريكية وزائر غير مقيم في منتدى الخليج الدولي ومؤلِّف كتاب منطقة الخليج وإسرائيل ذكر في تغريدة واصفًا وقائلاً: (الأمير بندر بالتأكيد رجل أسطوري ومقابلة جداً مميزة أوضحت الحقيقة).
تماهت المملكة العربية السعودية ودول الخليج لعقود طويلة مع المواقف العربية الجامعة، وكان الثمن الأكبر سياسيًا وليس ماليًا فقط يقع دائماً على كاهلها، وكانت ولا تزال في موقع السند والظهر لإخوتها دون قيد أو شرط، رغم عدم قناعتها أحياناً بمسار القرارات التي تتخذها القيادة الفلسطينية، لكن الوعي الشعبي قبل السياسي اليوم في الخليج والعالم العربي يتطلَّب قيادات تتفهَّم الواقع السياسي وأبعاد تحدياته وتقديم الحلول الواقعية العملية تجاهها، وقد أدركت الشعوب العربية -وخصوصاً الشباب اليوم - خطأ مسار العنتريات والشعارات التي عزلتها عن العالم وأقصتها عن دائرة الفعل والتفاعل والتأثير العالمي رغم أهمية موقعها وقوة إمكاناتها، وكما ذكر الأمير بندر بن سلطان بأن المملكة ودول الخليج تشارك العرب آلامهم وتصنع أفراحهم، ولن تحيد عن ذلك، رغم تفريط ممثلي القضية بمسؤولياتهم!
المتأمّل اليوم في المسيرة التنموية التي أطلقها سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ورغم أنها تستهدف مشروع التنمية في المملكة أولاً، إلا أن آفاقها تستهدف التنمية في منطقة الشرق الأوسط أجمع حتى في الدول التي تناصبنا العداء، وأحد أهم شروط نجاح هذا المسار هو الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في المنطقة والذي لن تفرِّط فيه المملكة ودول الخليج! وعلى شعوب المنطقة أجمع وليس الخليجيين وحدهم إدراك حقيقة أن مناطق العالم في سباق و«طابور» تنموي حقيقي كلما حان دور منطقة مؤهلة لدور القيادة فيه فإن العالم أجمع سيزمع أمره لاستثمار انطلاقتها، ولسنا وحدنا في العالم، فإفريقيا قادمة حين يحين دورها، وغيرها أقرب حين تصحح مسارها، لكن منطقتنا اليوم الأقرب والأهم في اتجاه هذا المسار، فلنستثمر الفرصة قبل أن تضيع!