عبدالوهاب الفايز
في الحلقات التلفزيونية الثلاث التي خصصها الأمير بندر بن سلطان للحديث عن شواهد التاريخ القريب للقيادات السعودية مع القضية الفلسطينية، رأينا كيف كانت القيادات السعودية تتحرّك في قلب الأحداث، صانعة وموجهة، ويقودها في حراكها القيم والأخلاق التي تربت عليها، ويوجهها (نموذج عمل سياسي وأضح) بالمستهدفات والغايات التي يتطلع إليها.
حديث الأمير بندر الصريح كان هدفه (التوضيح للأجيال الشابة السعودية) حقيقة الموقف المشرِّف لقياداتهم مع قضية الشعب الفلسطيني، بالذات بعد تصريحات القيادات الفلسطينية الصادمة للوجدان الشعبي، حيث (خوَّنت القيادات الخليجية، وادّعت أنها تطعن بالظهر، ونسفت كل تاريخها المشرِّف مع القضية الفلسطينية). قال الأمير: لقد (حدونا على أقصانا)، أي أخذونا إلى حيث نكره!
هذا الموقف السياسي الفلسطيني الصادم وغير الصادق، لن يؤثِّر سلبًا على الجيل الذي عرف القضية وأدراك تداخلاتها، أو على القيادات الفكرية والثقافية والإعلامية التي كانت قريبة من مواقع القرار وتعرف حقيقة الأمور، ولكن خوفنا على الجيل الجديد الذي يتلقى معلوماته من مصادر الاستهلاك الثقافي السريع، فهذا الجيل قد يبني اتجاهاته وتصوراته الذهنية السلبية عن بلاده وقياداتها على معلومات مغلوطة. هذا دافع الأمير بندر من الحديث، وأشار إليه وكرره ويشكر عليه، فهذا واجب رجال الدولة الذين كانوا في قلب الأحداث.
واجبهم تبني مسار التنوير للأجيال الجديدة عبر اللقاءات والحوارات الموسعة المستمرة. واجبهم التدخل والرد على كل من يحاول التأثير السلبي على وعي الأجيال الجديدة، فنحن مقبلون على مرحلة الحروب الثقافية والفكرية، ودورهم الوطني، تجاه الأجيال الجديدة، يتحقق عبر الذي دعونا إليه في مقالات سابقة، وهو ضرورة تبني (مشروع وطني يدوّن تاريخ رجال الدولة الذين شهدوا الأحداث المحلية والخارجية) منذ عهد المؤسس الملك عبدالعزيز، رحمه الله، وحتى الآن. أحاديث الأمير بندر بن سلطان تقدِّم نموذجًا حيًا لما ندعو إليه. سوف تأتي الأحداث والمواقف التي تتطلب الشهادات الصادقة للأحداث من الرجال الذين شهدوها.
السؤال الذي طرحه الأمير بندر ونطرحه جميعاً هو: ماذا تريد السعودية من القضية الفلسطينية؟
بالطبع لا نريد سوى مصلحة الشعب الفلسطيني، لذا كنا إلى جانب القيادات الفلسطينية ندعمها ونقف معها، وظل هذا ثابتاً حتى كشفت القيادات الفلسطينية القناع الحقيقي عن سلوكها، بعد تخليها عن اتفاق مكة رغم القسم تحت الكعبة على تنفيذ (ميثاق مكة)، والمرارة السعودية من الخلافات الفلسطينية سمعناها من الأمير سعود الفيصل، رحمه الله، حين أجاب على سؤال حول ضرورة التدخل لحل المشاكل المتلاحقة بين قيادات حماس والسلطة الفلسطينية، أجاب: ما الذي نستطيع أن ننجزه مع قياده خانت القسم في بيت الله وتحت الكعبة!
أول مرة شعرنا بالمرارة من تداخلات المشهد الفلسطيني عندما تم اغتيال الفنان ورسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي، وهو من جيل الفنانين والشعراء والروائيين والمفكرين الذين ولدوا من رحم المعاناة العظيمة، وتبنوا بإخلاص قضية شعبهم، وأغلبهم وقف ضد عبث القيادات السياسية الفلسطينية بالقضية عندما حولوها من قضية إنسانية عادلة إلى قضية سياسية تتجاذبها وتجدف بها المصالح والزوابع السياسية.
الأمير بندر بن سلطان في حديثه كشف جانبًا من هذا المسار السيئ للقيادات الفلسطينية عندما ذكر كيف أضاعت الفرصة بعد الفرصة، وتحدث بمرارة عن قضيه عادلة ابتليت بقيادة وصفها، بأدب أبناء الملوك والنبلاء، بأنها (قيادات غير موفقة!)
إخواننا الفلسطينيون، من النخبة المثقفة والمتعلِّمة وذات الأخلاق النبيلة الراقية، عندما نلتقيهم كنا نتألم من المرارة التي يجدونها من أداء القيادة السياسية الفلسطينية، بالذات سوء الإدارة والفساد، وكانت آراؤهم تبدو لنا صادمة، بالذات الجيل الذي نشأ على التعاطف مع القضية الفلسطينية وآلام الشعب الفلسطيني. هؤلاء، في الجلسات المغلقة المختصرة مع أصدقائهم، لا يجدون الحرج حين توجيه الانتقادات الشديدة التي ترقى أحياناً إلى (التخوين) للقيادات الفلسطينية الذين حولوا القضية العادلة إلى قضية خاسرة!
انتقادات النخبة الفلسطينية المثقفة الحادة يتحاشونها في الأماكن العامة حتى لا يحرجوا أصدقاءهم. في الخليج جرى العرف في الإعلام ولسنوات طويلة على عدم توجيه أي انتقاد أو ملامة للقيادات الفلسطينية، احتراماً لمشاعر الشعب الفلسطيني والتزاماً بالقضية المركزية للأمة، وحتى لا يضعف موقف القيادات الفلسطينية أمام شعبها وأمام العالم، وهناك قيادات إعلامية في الخليج تم إيقافها ومعاقبتها لأنها مررت مقالات أو آراء لم ترق للقيادات الفلسطينية، وهذا بدون شك له ثمنه السياسي الكبير المحرج للحكومات الخليجية مع شعوبها.
وهو نفس الثمن السياسي الكبير الذي دفعناه مع الدول الكبرى.. والأمير بندر بن سلطان روى جانبًا موسعًا للأثمان وللأوراق السياسية التي دفعت واحترقت بسبب قيادات سياسية فلسطينية، (لم يوفقهم الله!).