د. محمد بن عبدالله آل عمرو
تذكرت هذه المقولة بعد أن قمت بزيارة لسوق التمور في مدينة بيشة، وقد قل البائع وقل المشتري، ورخصت البضاعة على غير ما عهدته قبل سنوات، ومررت ببعض الباعة من المزارعين فلمست فيهم تعباً أرهق أجسادهم، وهَمًّا غَمَّ نفوسَهم، وغبناً أحرق أفئدتهم، وأصبحوا بين أمرين أحلاهما مر، كساد تمورهم، وهدر تعبهم وشقاهم طول العام، أو الاضطرار لبيع محصولهم بأبخس الأثمان، وقد سألت أحدهم عن سبب قلة المعروض من التمور على غير العادة، فقال: الناس يرتادون السوق الذي يربحون فيه، وقد كان سوق بيشة للتمور عامراً بكثرة تجار الجملة الذين يرتادونه من مكة المكرمة والمدينة المنورة وغيرها من مناطق المملكة، فيشترون من المزارعين مباشرة بأسعار مناسبة للبائع والمشتري، ثم انقطع أولئك التجار عن سوق بيشة منذ بضع سنوات، لأسباب لا أعلمها، فكثر المعروض وقل الطلب بنفس الأسعار العادلة، فانقسم المزارعون إلى فريقين، فريق تحمل مشقة التوريد للأسواق البعيدة طمعاً في أسعار مجزية، وفريق رضي من الغنيمة بالإياب في سوق بيشة، فيبيعون تمورهم فيها بأسعار زهيدة لا تقابل تكلفة الإنتاج على مدى عام كامل، ناهيك عن الأرباح المأمولة بعد كل ذلك التعب والتكلفة؛ ليس عدلاً أن يتعب المزارع عاماً كاملاً وهو يسقي ويصعد وينزل من النخلة في استصلاح ثمرتها نحو سِتٍّ أو سبعِ مرات ثم يبيع زِنَةَ الكيلوغرام من التمر (بريال)، ثم يباع ذلك الكيلوغرام بعد دخوله عمليات التصنيع والتصدير بسعر لا يقل عن (10) ريالات.
ومثل مزارعي النخيل في بيشة وتمورهم رخيصة الأثمان، رأيت كغيري بعض مقاطع الفيديو على وسائل التواصل الاجتماعي، عن بعض المزارعين الذين جلبوا إنتاجهم من الخضار إلى أسواق عامرة، فلم يجدوا من يشتري بضاعتهم ولو بريال أو ريالين للكرتون، ما يشكل خسائر كبيرة للمزارعين، وعمليات هدر للمنتجات الغذائية الزراعية.
لقد أدركت يوم أن كانت المزرعة هي سلة الغذاء الحقيقية للأسرة ومصدر السيولة النقدية لها، فيحصل منها اكتفاء ذاتي من اللحم والحليب والتمر والبر والشعير والبقوليات والخضار وعلف الماشية، وبعض أدوات البناء المهمة من الأخشاب والجريد وكذلك الحطب وغيرها كثير مما ينتفع به، كل ذلك من المزرعة التي يعمل فيها الفلاح بنفسه وولده دون أي دعم مالي أو غيره مما تنفقه الدولة اليوم بسخاء على قطاع الزراعة!! فما الذي حدث؟!
لقد أشار الدكتور خالد الرويس المشرف على كرسي الملك عبدالله بن عبدالعزيز للأمن الغذائي لصحيفة الاقتصادية في 23 أبريل 2019م أن المساحة المزروعة المستغلة في السعودية تبلغ نحو 1.14 مليون هكتار (الهكتار 0.01كم2)، تمثل 3.22 في المائة من جملة المساحة الصالحة للزراعة البالغة 35.35 مليون هكتار؛ وهي نسبة ضئيلة جداً، رغم ما توليه وزارة البيئة والمياه والزراعة من اهتمام ودعم للتنوع الزراعي في المملكة، وما تقوم به كليات الزراعة والأرصاد والبيئة وزراعة المناطق الجافة والبيطرة وعلوم البحار، وعلوم الأرض من تخريج المتخصصين في مجالات الزراعة والثروات الحيوانية والسمكية، وما تنتجه مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية وغيرها من مراكز الأبحاث الزراعية والحيوانية من الأبحاث المتعلقة بالإنتاج الغذائي.
فمع كل تلك الجهود الكبيرة، وما تضمنته الرؤية الزراعية 2030 من أهداف ومبادرات طموحة، ومع التنوع الكبير في المناخ والجغرافيا الزراعية في المملكة، إلا أنه لم يستغل من الأراضي الصالحة للزراعة إلا هذه النسبة الضئيلة، وحتى مع استصلاحها بجهد مشترك من الدولة ومن المزارعين، فإن جزءاً كبيراً من الإنتاج يتعرض للتلف والكساد وتدني الأسعار؛ ترى كم سيكون حجم الخسائر والأموال المهدرة في حال ارتفعت نسبة مساحة الأراضي المزروعة إلى 10 في المائة؟! حقيقة ليس لدي جواب!! فالدولة لم تبخل على المزارعين ومنتجي الثروات الغذائية بشيء من الدعم المالي والإرشادي، غير أنه من المؤكد أن هناك خللاً ما في منظومة الإنتاج والتسويق الغذائي أدى إلى عزوف كثير من المزارعين والمنتجين عن الزراعة، وانسحابهم من مِهْنَتِهِمْ التي توارثوها عن الآباء والأجداد لعدم جدواها الاقتصادية لهم.
وما من جهة تتحمل مسؤولية توسيع مساحة الأراضي المزروعة، ورعاية ودعم المزارعين بالأراضي والقروض وتوفير مصادر المياه الملائمة للزراعة، ويلي ذلك من الغرس وطرح البذور ومكافحة الحشرات حتى يتم تسويق وبيع المحصول بسعر عادل إلا وزارة البيئة والمياه والزراعة، سواء بشكل مباشر أو بالتنسيق مع الجهات ذات العلاقة؛ حماية للمال العام من الضياع سدى، ولئلا يكون حال المزارع معها: كحال من أُلْقِيَ في اليَمِّ مَكتُوفاً وقيل له: إِيَّاكَ إِيَّاكَ أنْ تَبْتَلَّ بالمَاء.