عمر إبراهيم الرشيد
يعود فن كتابة السيرة الذاتية إلى العصور القديمة ومنها العصر الروماني حين كتب الإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس مذكراته اليومية وهي أولى محاولات كتابة السيرة الذاتية تحت عنوان «بيني وبين نفسي» وكان ذلك في سبعينيات القرن الثاني الميلادي وقد كانت عبارة عن تأملات روحية. ثم تطور هذا اللون الأدبي عندما كتب الفيلسوف والمفكر والأسقف أوريليوس أوغسطين سيرته (اعتراف) وذلك في القرن الرابع الميلادي، سرد فيها تفاصيل طفولته وشبابه وأسرته واهتماماته، وهي من أوائل كتب السيرة الذاتية لكنها لم تلق الانتشار الواسع بسبب حجر الكنيسة على الكتب في ذلك الحين. الفيلسوف والعالم اللاهوتي ومؤسس جامعة باريس بيتر أبيلار كتب في القرن الثاني عشر الميلادي سيرته (تاريخ بؤسي) وهي ما يمكن اعتبارها بداية هذا اللون الأدبي الحقيقية لأنها كانت سرداً لتفاصيل حياته الخاصة، وقصة عشقه لتلميذته (ايلواز) والمعاناة والمحن التي مرا بها، وهي من أشهر قصص العشق الحزينة الحقيقية التي حفظت بفضل تدوين هذا الفيلسوف لسيرته الذاتية. توالت بعد ذلك السير الذاتية حتى كتب جان جاك روسو سيرته بعنوان (اعترافات) التي سرد فيها تفاصيل يومياته وحياته العاطفية والاجتماعية، ترحاله وتنقلاته وآراءه بشأن الاضطهاد المسيحي والفكر السائد في عصره. سيرة وينستون تشرشل تعد كذلك من أشهر السير الذاتية لأسلوبه الكتابي وغزارة الأحداث التي حوتها حين كتبها في جزءين ثم مذكراته في ثلاثة مجلدات.
الكتاب والأدباء العرب أسهموا في هذا الفن الأدبي منهم طه حسين في (الأيام)، وعباس العقاد في (أنا) وأحمد أمين في (حياتي) رحمهم الله تعالى، ولعل أشهر سيرة ذاتية مهنية سعودية ما نثره الدكتور غازي القصيبي رحمه الله في كتابه الشهير (حياة في الإدارة) الذي يعد مرجعاً في الحس الإداري والإنساني.
وددت أن أورد هذه المقدمة لإنعاش ذاكرة القراء الكرام بشأن هذا اللون الأدبي ولو على عجالة، وقد تابع الملايين عبر الشاشات ووسائل التواصل السرد التوثيقي الذي قدمه الأمير بندر بن سلطان، في استرجاع لأحداث ووقائع شهدها بنفسه، التي تتناول تحديداً القضية الفلسطينية وكيف أن معظم قياداتها قد فشلوا بكل أسف في خدمتها والدفاع عنها ونيل حقوق شعبها المضطهد. وأقول هنا كان سرد الأمير بندر مباشراً دون تكلف، مع صدق ينبع من الكلمات والتعابير وتصوير يشد الانتباه للمواقف. إنما شاهد على عصره مثل هذا الدبلوماسي الفذ وبهذه العقلية السياسية غير المستغربة على أمثاله، وهو أقرب ما يكون إلى الراحل سعود الفيصل رحمه الله تعالى، وهم ممن رضع السياسة مع الحليب كما يقول التعبير الدارج، أفليس الأجدر به تدوين هذه السيرة الذاتية الثرية بالفكر السياسي والإداري والوقائع والأحداث والكم الوفير من المعلومات، كي يستفيد منها الجميع وكل من يعمل أو يتوق للعمل الدبلوماسي والقيادة والعمل الإداري الناجح بشكل عام. هذا أمل لا إملاء بطبيعة الحال، أضف إلى ذلك أهمية مثل هذه المكاشفات والسرد في أن تكون محاضرات يلقيها الأمير بندر في الجامعات والمعاهد والمراكز الثقافية إثراءً للمجتمع وتوثيقاً لها.
صمت هذا السياسي الفذ طويلاً ولعله صمت الحكمة، وما أن أطل حتى أنصت له الملايين على امتداد الوطن والدول العربية، وهو يمثل ركناً من أركان الفكر السياسي والدبلوماسي لهذه الأسرة الحاكمة ووالده وأعمامه، رحم الله من رحل وحفظ من بقي، وصحبتكم عناية الرحمن.