الهادي التليلي
لم يكن لكورونا أثر على صفحة مشهد العالم الخارجية وعناوينه الرئيسية فقط، بل كذلك على جوهره وأسسه، فأمريكا تأخرت نقاطاً على نفسها، ولكنها بقيت محافظة على مكانة تليق باقتصادها وحضورها الجيوسياسي، والصين فقدت الكثير الكثير من صورتها الذهنية، ولكنها لم تخلع بدلة الرقم الوازن في معادلة الاقتصاد العالمي، وروسيا التي وبحكم الجدار الحديدي الذي سكنت وراءه لا يعلم الكثيرون عن حجم تراجعها الذي لم يؤثر على حضورها الكوني، أما أوروبا فقد انفرط عقد تنميتها ولم تعد اتحاداً فعلياً بقدر ما هو إطار جميل لتغطية ندوب وخدوش كورونا، فإيطاليا وإسبانيا مع نهاية الموسم الكوروني التحقتا اقتصادياً بالعالم الثالث، وإن حاولتا بكبريائهما الأوروبي المعهود المكابرة، وبريطانيا التي كانت ترى نفسها أكبر من الاتحاد الأوروبي صار اقتصادها يشي بمستقبل لا يليق بعميدة الاستعمار القديم والأم غير الشرعية للولايات المتحدة وغيرها من الكيانات الدولية العملاقة على حسب زعم الإعلام البريطاني المصاب بعقدة الكبر الجيوسياسي، أما ألمانيا فبقيت تبحث عن معادلة لم ولن تجدها لمواجهة مستقبل بديموغرافية تغلب عليها عناصر الترهل واقتصاد مهدد بالتفتت جراء المنافسة العالمية الشرسة، ألمانيا التي شدتها شقيقتها التي توحدت معها مع سقوط جدار برلين سنوات ضوئية للوراء تنموياً، صارت على مشارف الخروج من كورونا بلا باروماتر حقيقي ولا ثبات يهضم الوقائع ويشغل المحركات الاحتياطية للسرعة القصوى، وفرنسا لجأت مع ترهلها نتيجة الشلل الاقتصادي الذي خلفته احتجاجات القمصان الصفر وما تركته جائحة كورونا إلى البحث عن موارد بديلة، خاصة أن المنجم الإفريقي أغلق بابه في وجهها بعد السياسات العنصرية لماكرون وحزبه، ولم يبقَ لها غير لبنان وما يمكن أن تستفيده من خلاله سواء من حيث الصورة الذهنية والحضور الدولي، ورغبتها في أن تكون مفتاح الحل في الشأن اللبناني أي أعين القوى الكبرى، وما الزيارات المكوكية لماكرون للبنان ومحاولاته التجمل بتكريم بعض الفنانين في بلدهم إلا ملهماً لأحد الخصوم السياسيين في المعارضة الفرنسية للقول بأن فرنسا مغلقة للتصليح وماكرون عاطل عن العمل يسلي نفسه بالشأن اللبناني.
وأما الدول الإسكندنافية على غرار الدنمارك والسويد وفنلندا والنرويج والتي عرف عنها الرخاء والازدهار فبقيت كما إسفنجة الجزر القديمة تتباعد على أوروبا حتى لا يصيبها ما أصابها، ومن حسن حظها محافظة أغلبها مثل الدنمارك والسويد وغيرها على عملتها المحلية ولم تدخل مدار عملة اليورو حتى لا تعتل باعتلاله، وأما عن بعض البلدان الأخرى التي لم يكن لها في الزمن الحديث أي حجم أو وزن إقليمي ونعني هولندا وبلجيكا والبرتغال فبقيت في وضعية المشاهد، في حين سويسرا التي تعتبر نفسها البنك الحقيقي للتنمية الأوروبية فقد اغتنمت القوانين الاستثنائية التي تتمتع بها لمزيد الثراء الداخلي تحت قاعدة الخلاص فردي، ومن ثمة لم يبق لكيان أوروبا المتحدة والتي تأسست في 2003 سوى الاسم في نهاية 2020، فالاتحاد الأوروبي الذي يراه البعض ساعتها كيان المستقبل وأنها ستكون القوة الأضخم كونيا.. صارت جزراً لا اتحاداً، فأوروبا التي لم تتجدد ورفضت التجدد والتأقلم مع الوضع العالمي الجديد تقادمت، ولم تصمد أمام القوى العالمية الجديدة التي بمثابرتها وإسهامها الدولي افتكت شرعية تواجدها مع مربع الكبار، ونعني هنا المملكة العربية السعودية التي فتح العالم أعينه عليها بعد كورونا مع كل من أمريكا وروسيا والصين مربعاً قوياً ساهم في إنقاذ العالم من تبعات جائحة كورونا الاقتصادية والتنموية، وزادها ذلك ترؤسها قمة العشرين بشكل لفت انتباه العالم إلى هذه القوة القادمة في المشهد العالمي الجديد.