د. جمال الراوي
يتعرّض الأطباء لمواقف مُحرِجة؛ حيث يعْترضهم بعض الناس عند الخروج من المساجد أو في الطرقات أو عند حضورهم أحد المجالس، فيطلبون منهم إبداء الرأي في شكوى مرضيّة؛ فيقع الطبيب في حرج بالغ، لأنّ الشاكي يعرض شكواه في مكان وزمان غير مناسبين، ويطلب منه الإجابة بدقّة وإعطاء التشخيص ووصف العلاج خلال دقائق معدودات، فيضطر الطبيب للمداورة، ليخلّص نفسه من هذه الورطة، لأنّه لا يملك الوسائل والأدوات التي يستطيع معها الكشف عن أسباب الشكوى، ولا يملك القدرة على التشخيص السريع والعاجل، علماً بأنّ الشاكي لا يغفر للطبيب تهرّبه وتردّده، وينتظر منه إجابة سريعة وعاجلة!!
في حقيقة القول؛ الاستشارات الطبيّة العابرة، هي الوحيدة القادرة على لي أعناق الأطباء ووضعهم في حرج شديد، فيظهر الطبيب في حال لا يُحسد عليها، وقد أخضعه الشاكي لاختبار عاجل وغير متوقع، فيقول له، مثلاً: بأنّه يشكو من صداع أو ألم في خاصرته أو في قدمه، وعلى الطبيب إعطاء تشخيص دقيق وعاجل وسريع!! وإذا حاول الطبيب المراوغة، فإنّ الشاكي سوف يمطره بأسئلة أخرى، حتى يجرّده ويعريه، ليستسلم الطبيب في النهاية، فيطلب الخلاص والفكاك، فيقول للمريض: (تعال إلى المستشفى، وسأساعدك في إجراء الفحوصات الشعاعية والمخبرية وغيرها!!)، وعندها يقع المحظور، فيقع الطبيب في ورطة أخرى، لأنّه سيجد المريض ينتظره، في اليوم التالي، عند بوابة المستشفى، والجوال لا ينقطع عن الرنين، لأنّ الطبيب تأخر عن الموعد المتفق عليه.
لا شكّ بأنّ السعي في حوائج الناس فيه أجرٌ عظيم، وقد ورد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم: (لأنْ يمشي أحدكم مع أخيه في قضاء حاجة - وأشار بأصبعه- أفضل مِن أنْ يعتكف في مسجدي هذا شهرين)، وهذا يدل على أنّ سعي الأطباء في مساعدة الناس وقضاء حوائجهم، فيه أجرٌ عظيم، ولكنّ المعضلة الكبرى؛ أنّ هذه الشكاوى ليست كلّها حوائج، فقد تكون وساوس وأوهامًا لا تستدعي الاستشارة والشكوى، فأحدهم قد يصيبه ألم في قدمه، فيستوقف الطبيب في الطريق؛ يصف له ألمه، فيسأله عن مدة الألم، فيجيب بأنّه أفاق من النوم صباح اليوم، وكان اضطجاعه غير مريح، فيردُّ عليه بأنّه ألمٌ عارض وعليه أنْ ينتظر نهاية اليوم، وسيزول -بإذن الله!! لكنّ الشك يبقى يراود الطبيب؛ لأنّه يخشى أنه أوهم الشاكي، فيبقى الأمرُ في ذاكرته، خوفاً أنْ يكون الألم بداية أعراض جلطة في الساق، وغير ذلك!! ويبقى القلق يراود الطبيب طوال الليل، وفي الصباح، يتصل بالشاكي يسأله عن ألمه، فيستغرب من سؤاله، فيردّ عليه بأنّه قد نسيه: لأنّه زال تماماً!!
وفي حالات أخرى؛ يتعامل الطبيب مع أصحاب المِهن؛ الذين ما إنْ يعرفوا بأنّه طبيب، حنى يبدؤون يُمطرونه بالأسئلة حول شكوى أو مرض قديم، ثم يرجونه بأنْ يأتيهم بالدواء المناسب من المستشفى الذي يعمل فيه، فيُبدي الطبيب امتعاضه؛ لأنّه قد وقع في حرج بالغ؛ لأنّهم لا يتركونه حتى يعطيهم رقم جواله، فيشعر بالخجل أمامهم، لكنه خجلٌ عابر، لأنّ الطبيب سرعان ما يكتشف بأنّ خدمات أصحاب المِهنة له؛ لم يكن لها أيّ أثر، لأنّ المبلغ الذي طلبونه منه يتجاوز ما هو متعارف عليه، فيسكت، رغماً عنه، لأنّ المهني، دائماً، ما يُضيف قائلاً بأنّ هذه الأجرة مُخفضّة، وقد أكرمه لأنّه طبيب!! فيذهب الطبيب نادماً إلى بيته، لأنّه لم يستطع إخفاء مهنته التي جرّت عليه المصائب، وليكتشف بأنّ علوّ مقامه المزعوم في المجتمع، لم يعدْ لها أية أهمية، لأنّ مهنة الطبّ أصبحت سبباً لابتزاز الآخرين له.
ومن الطرائف التي تعلّمناها في الممارسة الطبيّة، هي الحرج الذي يلاقيه الطبيب أمام مريض، من عليّة القوم ووجهائهم، ومن الذين يأتون في أغلب الأحيان، ومعهم المرافقون والحاشية، فيشعر الطبيب بأنّه في حضرة رجل ذي مقام كبير، فيتلعثم ويصفرّ وجهه، وهو يرى الأعين تراقبه وتصغي لكلامه ونصائحه!!... وقد علّمنا أساتذتنا أنْ نحاول تجريد هؤلاء المرضى من وجاهتهم حتى نسيطر على الموقف، والطلب من هؤلاء المرضى إجراء الفحص الطبي، وحينها يستسلم المريض للطبيب ويصبح مطواعاً بين أيدينا.