د.صالح بن عطية الحارثي
للشافعي -رحمه الله تعالى- قولةٌ سائرة نافعة: «لا أعلم علمًا بعد الحلال والحرام، أنبل من الطب»، بل جعل الشافعي الطب ثلث العلم، ولا غرابة فبه صلاح الأبدان، بل في كلام بعضهم ما يقتضي كون علم الطب نصف العلم، قال الأعمش: أَهْلَكَ الناسَ رجلان.. نِصْفُ (عالِم)، ونِصفُ (طبيب)!.. هذا يهلك (الأبدان)، وذاك يهلك (الأديان). وما من شك في كون الطب مهما غاية الأهمية.
وفقهاء الشريعة متفقون على جواز ممارسة العمل الطبي وكون ذلك فرض كفاية، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}، وقال عليه الصلاة والسلام: (لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله). قال النووي في هذا الحديث وغيره: وفيها رد على من أنكر التداوي من غلاة الصوفية وقال: كل شيء بقضاء وقدر فلا حاجة إلى التداوي. وحجة العلماء هذه الأحاديث ويعتقدون أن الله تعالى هو الفاعل، وأن التداوي هو أيضاً من قدر الله، وهذا كالأمر بالدعاء، وبالتحصّن، ومجانبة الإلقاء باليد إلى التهلكة مع أن الأجل لا يتغيّر والمقادير لا تتأخر ولا تتقدَّم عن أوقاتها ولا بد من وقوع المقدرات. والله أعلم.
والمريض يتوجه إلى طبيب أو مستشفى حين يلم به ألم أو تعب أو يعاني شيئاً في بدنه أو في نفسه، مؤملاً في الله كل خير، آخذاً بالأسباب، وممتثلاً للأمر بالتداوي، وهو يعرف قيمة الطب وأهله، ومستقر في أعماق نفسه أن الطبيب صاحب مهنة إنسانية ذات هدف سام قبل أن تكون مهنة ذات ربح، فضلاً عن أن تتخذ تجارة هدفها جمع المال بصرف النظر عن مصلحة المريض ومنفعته التي ينبغي أن تكون نُصْب عيني كل ممارس صحي؛ لأن أجره سيأتيه ليس هذا وحسب، بل سيأتيه محفوفًا بالدعوات الصادقة، والكلمات الشاكرة التي ترجو أن يكثِّر الله في الأمة من هذه النماذج التي تسعى وتحرص على حماية أبدان الناس وأرواحهم.
ومع هذا قد يبتلى المريض بطبيبٍ يهمل أو يقصر فنيًّا أو إجرائيًّا في بذل العناية اللازمة للمريض، وحينها تحدث الأخطاء الطبية، التي ازدادت حتى صارت تؤرِّق كثيراً من الناس؛ إذ قد نتج وينتج عن هذا الإهمال خسائر مادية وأضرار معنوية للمريض وذويه، وقد ينتج عن الخطأ الطبي وفاة المريض.
وينبغي - والحالة هذه- أن يرتفع وعي المرضى والأصحاء، وأن ينتبهوا لحقوقهم وما لهم إذا حدث لهم أو لذويهم ومعارفهم شيء من هذا، دون تعسف ولا ترصد ولا ادّعاء ما لم يكن، وبناءً على هذا فيحق للمتضرّرين من الخطأ الطبي المطالبةُ بالتعويض عن الأضرار التي لحقتهم نتيجة الخطأ الطبي، فالطبيب الذي ارتكب الخطأ الطبي عرضة للمساءلة والضمان، إذا تحققت شروط الخطأ وانتفت مسقطات التعويض.
والطبيبُ ومن في معناه يضمنُ سرايةَ أي مضاعفات ما تسبب فيه من جراحةٍ أخطأ أو تجاوز فيها ما أُمر به، كما يضمن الجاني المتعدي سرايةَ جنايته وخطئه، والجامع بينهما هو التعدي عن المحل المحدد، دون وجه حق؛ فلصنعة الطب حدود، وليس للطبيب أن يزيد عن القدر المأذون فيه صناعةً وإذنًا من الشرع ومن المريض أو وليِّه، أو ينقص عنه نقصاً يضر بالمريض؛ لأن فعله - والحالة هذه - فعل محرّم؛ فقيس الطبيب المخطئ على الجاني بجناية خطأ. فخطأ الطبيب في حكم جناية الخطأ دون فرق.