د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
في بلادنا عروق رمال كثيرة، تتعاظم وتتكاثف وتتداخل شقائقها؛ فلا يُسار فيها إلا بمُعرّف وعارف؛ ولا يقطعها إلا خريّتٌ ماهر، وتبقى صحراء الدهناء موسوعة الصحاري برمتها، تتهادى بقوتها وجبروتها، تبثُّ وتندى لحظاتها بحكايات الوجد الصحراوية التي ترويها منابرها لرفقة السير والمسير؛ فما بين وشوشة رمالها المتحركة في بعض أجزائها والساكنة في أجزاء أخرى، وبين ما يضيق منها في بعض الأماكن فيبلغ عرضها 22 كيلاً، وما يتسع في أخرى فيبلغ 99 كيلاً، وقد تزيد. يؤكد الجغرافيون أن صحراء الدهناء من أخصب مرابع بلادنا ومراتعها فحضنها الغربي مستقرٌ لسيول الأودية التي تنحدر عليها (وادي الشوكي وروافده وأودية الثمامة وروافدها وأودية العتك وروافده والطوقي وروافده)، ورصد آخر من الأودية جدير بالاطلاع والمشاهدة، ففي ثنايا الدهناء تمتد روضة «التنهات» الأثيرة الشهيرة ومستراد لملوك بلادنا، ومرتبعهم في خلواتهم الملأى بروح السياسة ومقوماتها العليا؛ والتنهات روضة من أجمل رياض نجد وأخصبها وأطيبها نبتًا وأحسنها موقعًا فيحضن (الدهناء) حيث يلتف «سدرها وطلحها وجثجاثها وشيحها وقيصومها»؛ وكل نبت طيب بها إذا جادها الغيث وباكرها الوسمي؛ وتتواشج معها روضة (خريم)، وفيها أردية مماثلة شجر ونبت وجمال. وهناك رياض البجادية والسهباء؛ فشكل تلك الرياض المعشوشبة يسر الناظرين؛ إذا أخصبت وازدانت وازدهرت وتفتح نوارها وغردت أطيارها؛ وتشتاقها الدهناء فتطل عليها بحمرتها الذهبية؛ وتمتد غربها الأودية بغدرانها وتطرقُها صبا نجد فيفوح عبيرها ويعبق شذاها! لذا كانت روضات الدهناء المخصبة متنزهًا مفضلاً للملك عبدالعزيز - رحمه الله - مؤسس هذا الكيان الشامخ يقيم بها شهورًا أيام الربيع، وتنبتُ خيامه في جوانبها، فينزل بين رياضها فيما استرق من الرمل، وارتفع عن مستقرات السيول، وما سلم من عثير الغبار وطين الأرض. وكان شيوخ القبائل وبعض رجالات العرب يتجمعون ويكتنفون مضارب الملك عبدالعزيز على شكل ندوات وأندية يتطارحون فيها الأخبار والأشعار، ولا تخلو تلك الأجواء الفياضة من وفود تأتي من خارج البلاد لشأن سياسي أو إبرام اتفاق أو وفاق مع المؤسس -رحمه الله- وفي ذلك يقول الشاعر فؤاد شاكر في كتابه رحلة الربيع، وهو ممن حضر وانبهر بذلك المستراد الصحراوي الخصيب:
فيا سائلي عن نجد أو عن رياضها
فديتك؛ هذا بعض ما في ربا نجد
ومن الروافد المضافة للقيمة الصحراوية للدهناء أنها حوتْ أعلامًا بارزة، تغنّى بها شعراء الجزيرة العربية، واستوعبتها عيون الأدلاء، ووقفوا عند مفاوزها؛ واستوقفوا في ذكرياتها الشعرية لمن مروا بها، وسكنوا فياضها ورياضها. ويطول بي السرد لو تتبعتُ أعلام (الدهناء) وما فيها من وقفات ومناسبات وقصص! ففي الجانب الآخر، وفي سالف جزيرة العرب كانوا يتخذونها ملاذًا عن الأعداء المغيرين، ينطوون في كثبانها فيجدون فيها ملجأ يحصنهم من أعدائهم.
ومما توارد من القول والشعر عن (الدهناء)
قول أعشى همدان:
يمرون بالدهنا خِفافا عيابهم
ويرجعن من دارين بجر الحقائبِ
وقال آخر:
ألا حبذا (الدهناء) وطيب ترابها
وأرض خلاء يصدح الليل هامها
وقال ذو الرمة:
خليلي قوما فارفعا الطرف وانظرا
لصاحب شوق منظرا متراخيا
عسى أن نرى والله ما شاء فاعل
بأكثبة (الدهناء) في الحي باديا
وقولي:
صحراء نجد أشرقت أنوارا
ثم انحنتْ قمم الحجاز وقارا
واستحيتِ (الدهناءُ) من دهمائها
لما أُبيحتْ للإمام جهارا
ولما أنه أصبحت للسياحة في بلادنا وزارة بطاقات مكتنزة؛ ولأن حفظ معالم الصحاري ورواياتها الملأى بجودة الحياة آنذاك ليس ترفاً، بل هو من أهم أدوات ومفاتيح التاريخ وتدوينه؛ فنأمل أن تصبح السياحة تأصيلاً لتاريخ يفيض ويعلو، وأن تكون في حكايات الدهناء وأخواتها من مرتبعات صحارينا الوثيرة ورياضها وسرادقاتها الملَكيّة استراتيجية جديدة، تتحدث عن بلادنا من زواياها الأخرى عندما كانت ناصية الصحراء مسترادًّا للقوة ومرتبعًا للحكم، فمن الأهمية أن تدخل تلك المواقع في مستهدفاتنا السياحية حديثًا؛ وأن توظف رواياتها في محددات جديدة، تميز بها وطننا وملوكنا في عهودهم الزاهرة منذ المؤسس، وذلكم شغف ممتد في الذات السعودية منذ الأزل!